أقلام يورابيا

معالم للنهوض…في زمن الإنكسار والسقوط

د. فادي الحسيني

في اليوم الأول من دراساتي العليا في أحد المدن الأوروبية من تسعينيات القرن الماضي، ذهبت متوشحاً الكوفية الفلسطينية، وكانت مفاجأتي كبيرة حين شاهدت ردة فعل الطلاب وكأنهم رأوا مخلوق فضائي من كوكب آخر. إقترب الجميع وسألوا إن كنت فلسطينياً، ولم تنتهي أسألتهم وإبراز إعجابهم بالفلسطينيين حتى مساء ذات اليوم حين دعوا أصدقائهم للتحدث مع الفلسطيني. بعد مرور ما يزيد عن خمسة عشر سنة، إنتابني ذات الشعور بالدهشة حين تقدم أحد عازفي الموسيقى في أحد شوارع مدينة أوروبية أخرى سائلاً إن كنت فلسطينياً بعد أن شاهد الكوفية الفلسطينية، وما أن عرف أني فلسطينياً وإذا به يُظهر قدراً كبيراً من التقدير والاحترام لنضال الشعب الفلسطيني. تساءلت حينها: أهي الكوفية؟ ما هي تلك القوة التي تحافظ على نفسها، رغم ضخامة المتغيرات السياسية وعظم التطورات الميدانية لتبقي هذا القدر من التقدير في قلوب الناس حيال القضية والنضال الفلسطيني.

هو مصطلح قدمه جوزيف نيه عام 1990 للسياسة الدولية بعنوان القوة الناعمة. وتقضي الفكرة التي تقوم عليها القوة الناعمة بأن تقوم الدول أو الفاعلين الدوليين بتحقيق أهدافهم ومصالحهم عبر إقناع الأطراف الأخرى وليس من خلال الضغط أو القوة العسكرية. ويحدث الإقناع من خلال إبهار الآخرين بتجارب ناجحة أو تحقيق إنجازات تقنع الأطراف الأخرى بأن هذه الجهة هي أجدر بمجاراتها واللحاق بركبها.

العلامة الفارقة في نجاح هذه الإستراتيجية هي الدور المتصاعد للرأي العام، والذي إرتبط كثيراً بثورة المعلومات ومن بعده الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الإجتماعي. قد يبدو هذا الحديث نظرياً بعض الشيء، ولكن عند مراجعة الأمثلة العديدة لاستخدام القوة الناعمة، يبدو حينها مدى جدوى وفاعلية هذه القوة. فعلى سبيل المثال، استخدمت الولايات المتحدة كثيراً نجاحاتها في السينما العالمية، وبروزها كأحد أهم الدول المصدرة للتكنلوجيا والنجاح العلمي والإقتصادي لتحدث هذا التأثير، أما فرنسا فسخرت تاريخها الحديث والثورة الفرنسية لإظهار أنها منبر للمساواة والحرية في العالم، وكذلك أظهرت أنها منبر للفن والرومانسية ببريق خاص لمدينة باريس سلطت الضوء عليه في كل مناسبة. اليابان لم تتأخر كثيراً، وأعلنت ما أطلقت عليه Cool Japan للترويج لسياستها الناعمة، بعد أن حققت نجاحاً ملحوظاً في علم التكنلوجيا والمركبات أبهرت دول العالم.

إقليمياً فالمثال الأبرز كانت تركيا قبيل أحداث ما أطلق عليه الربيع العربي، فقدمت نفسها تحت عنوان النموذج التركي، مستغلة النجاحات الإقتصادية والسياحة والدراما والمسلسات. هذا النجاح أبهر الكثير من العرب حيث تصاعدت الأصوات المنادية بمحاكاة النموذج التركي. إيران نهجت ذات الطريق، وإستخدمت سياستها الناعمة- رغم شكلها الخشن- في الترويج لفكرة محور المقاومة من أجل إستقطاب وإقناع الدول والفاعلين ليحذو حذوها.

عربياً، فقد وظفت دول كمصر وتونس والمغرب بعض الجوانب التاريخية أو السياحية لخدمة قوتها الناعمة، واستخدمت عمان حياديتها لتبرز نفسها كجزيرة هادئة ولتُقدم أوراق اعتمادها كوسيط دولي في أي صراع يتعلق بالإقليم، أما قطر، فكانت قناة الجزيرة أولى أدوات قوتها الناعمة، وبدأت بالإضافة لدول مثل الإمارات في إختراق حصون عادة ما كانت حكراً على الدول الغربية مثل الرياضة وشراء الأندية والترويج لشركات الطيران ومؤسساتها النفطية.

ورغم عظم تأثير القوة الناعمة، إلاّ أنها لا يمكن أن تشكل سياسة قائمة بذاتها، ويبقى تأثيرها منقوص ما لم تتكامل مع جوانب أخرى كالإستقرار الإقتصادي والأمني، وإتساق السياسات الداخلية مع التحركات الخارجية. وهناك البعض ممن يخلط بين الدبلوماسية العامة والقوة الناعمة، فالأخيرة أشمل حيث تدور الدبلوماسية العامة في فلك القوة الناعمة.

فلسطينياً، فيبدو أن القاعدة أو الأساس لقوة ناعمة موجود، بدئاً بتاريخ فلسطين منذ قديم الأزل، ووصولاً للحداثة الفلسطينية متمثلة بعظمة هذا الشعب التي تجسدت بعلماء وشعراء، ورواد في مجالات مختلفة. فقد سجل الفلسطينيون تميزاً بأسماء كإدوارد سعيد ومحمود درويش حيث تعدت شهرتهما الحدود التقليدية. التميز لم يتوقف عند هذين العلمين، فالتاريخ والحاضر الفلسطيني قدم الكثير من المتميزين كان آخرهم المدرسة حنان الحروب التي فازت بجائزة أفضل مدرس في العالم، والطالبة عفاف الشريف التي فازت بجائزة تحدي القراءة الأخير في دبي، والممثل الفلسطيني كامل الباشا، الذي حصل على جائزة أفضل ممثل في مهرجان البندقية الـ 74، والملاكم الفلسطيني رعد رشيد عيد الذي فاز في بطولة العالم في الملاكمة لوزن 91 كلغ في مدينة فرانكفورت الألمانية. الأمثلة التي قدمتها فلسطين كثيرة في مجالات الفن والرياضة والقضاء والطيران والعلوم والتكنلوجيا، كذلك إضافة للحضور المتميز للشخصيات الفلسطينية في إدارة المؤسسات والمنظمات الإقليمية والدولية.

أما إرث الثورة الفلسطينية، فبقي تأثيره راسخاً في عقول وقلوب الناس، ليس فقط في منطقتنا، بل في كافة أرجاء الأرض. ورغم مرور عقود على هذه الثورة وفترة الكفاح المسلح أو الإنتفاضة الأولى، والتي إرتبطت كثيراً في أذهان الغرب بشكل الكوفية، أوحنضلة أو المقلاع أو الحجر أو حتى صورة طفل يقف أمام دبابة، إلا أنا تأثيرها ما زال جارفاً ويشكل قاعدة إنطلاقٍ لأي عمل ترويجي يهدف لاستغلال هذه القوة الكامنة لخدمة الأهداف الإستراتيجية والوطنية.

ولكن كما هو حال القضية الفلسطينية، فقاعدة القوة الناعمة الفلسطينية تعرضت لهزات عدة، كان أبزها على الإطلاق الإنقسام الفلسطيني، الذي شوه بشكل واضح معالم وشكل النضال الفلسطيني وعدالة قضيته. إلاّ أن تفاؤلنا الحذر حيال المصالحة الفلسطينية يدعونا للقول بأن الإنقسام إلى زوال، لأن العنصر الفلسطيني الأصيل سيلفظ هذا المرض من جسد الأمة، مهما طالت فترة التخبط والإضطراب. وإلى حين زوال الإنقسام عملياً على الأرض، يجب أن نُسقطه إعلامياً ونفسياً، ويجب أن نحد من حالة التراشق الإعلامي وتقليل الحديث عنه حتى ولو شكلاً أمام العالم، وذلك من أجل تجميل الصورة الوطنية الفلسطينية وتقليل تأثير أية شوائب قد تؤثر سلباً على القوة الناعمة.

الحديث عن دور وفرص القوة الناعمة في فلسطين يأتي مع تشتت العرب أكثر من أي وقت مضى، وفي ظل إنحسار خيار المقاومة من جهة وتعثر الخيار السلمي من جهة ثانية، حيث بدا من المهم البحث في سبيل جديد يسمح بالإستمرار في الملحمة النضالية نحو التحرر.

قد يكون الصمود والتواجد على الارض أهم مكون لأي خيار وطني، وهنا تبدو أهمية تعزيز فكرة المواطنة والهوية، والإعتزاز بالإرث والتاريخ، فيجب أن تكون أولوية لأنها تصب في مصلحة الوطن أولاً، وأي خيار وطني تتخذه القيادة في سبيل التحرر.

إن فكرة تعزيز المواطنة والهوية الوطنية عنصر أصيل تعتمد عليه معظم الدول التي تتخذ من القوة الناعمة طريقاً لتحقيق أهدافها الوطنية.

بعض مكونات القوة الناعمة (كالدبلوماسية العامة) لها أثر بين متوسط إلى قصير الأمد، إلا أن التأثير الحقيقي للقوة الناعمة هو بعيد الأجل، وهو أمر قد لا يُعجب البعض ممن يستعجلون النتائج، ولكن قصص الأوطان وحكايات الحرية لها أثير يختلف عما ينشده الفؤاد، فكم عقد جثمت بريطانيا في الهند، وكم سنة إستنزف الإستعمار الفرنسي بلد المليون شهيد؟

ولكي تؤتي القوة الناعمة أكلها يجب أولاً ألا ترتبط إرتباطاً عضوياً بحكومة أو بسياسة بعينها في الوقت الذي يجب أن تصب بعض السياسات الحكومية في خدمة القوة الناعمة. فمثلاً، حين إستثمرت الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا في مراكز ثقافية خارج حدودها، كانت بالفعل تخدم للترويج لسياساتها من خلال العمق الثقافي، وحين تمول حكومة زيارة كاتب أو ممثل أو علم من أعلام هذا البلد في زيارة خارجية تقوم بالفعل بتقديم نموذج مبهر من المفترض أن يؤدي لذات الغرض. الأمثلة كُثر في كيفية التكامل بين العمل الرسمي والعمل الشعبوي الذان يصبان في نهاية المطاف لحشد التأييد والدعم للقضية الفلسطينية، والتاريخ والثقافة والحضارة على هذه الأرض.

وخير مثال على نجاعة القوة الناعمة هو ما حققته حركة المقاطعة لإسرائيل BDS، فنأت الحركة أولاً عن الإرتباط بأي سلطة أو حكومة، وثانياً إبتعدت عن الغلو التقليدي في هجومها على قوة الإحتلال وهو الأمر الذي أكسبها شعبية يوماً بعد يوم في الشارع الغربي قبل العربي. الضرر الإقتصادي والجفاء الدولي في مقابل توسيع دائرة القبول وتقبل الرواية الفلسطينية سيدفع إسرائيل للوقوف عند الثمن الباهظ الذي ستدفعه مقابل إستمرار أحتلالها لأرض بالقوة.

نعم، إننا نستعجل الوصول إلى شمس الحرية، ويتداعى أكثرنا ألماً بفعل آثام الإحتلال اليومية، أما العجلة والألم فهم من الطبيعة البشرية، ولكن أليس تاريخ الأمم خليط تتماهى فيه حقب بعضها مشرق وأخرى حالكة دامية…أوليس كل إحتلال إلا إلى زوال….أليست هذه هي حتمية القدر وحكاية كل أمة نشدت الإستقلال، يبقى البقاء والرباط والعمل المخلص الدؤوب سر معالم الصعود، حتى وإن تخلل المسير حزن وبعض من سقوط، فما قيمة النهوض دون السقوط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق