السلايدر الرئيسيشرق أوسط
قراءة لمستقبل الشرق الأوسط: بين عاصفة الـ “سوخوي” وهزّة الـ “إس 300” (1 ـ 3 )
جمال دملج
بيروت ـ ـ في مثل هذه الأيّام من عام 2015، وبينما كانت النتائج المترتِّبة عن قواعد الاشتباك الجديدة التي فرضتها قاذفات الـ “سوخوي” الروسيّة في الفضاء السوريّ تتجلّى أكثر فأكثر على الأرض من خلال تركيز التصويب بدقّةٍ متناهيةٍ على ما يتيسَّر من مواقعَ للتنظيمات الإرهابيّة ومشتقّاتها الظلاميّة التي تتستَّر بالإسلام من أجل تبرير أفعالها الشنيعة، كانت اهتمامات المراقبين تتركَّز في الموازاة على رصد وتيرة ردود الأفعال الدوليّة والإقليميّة حيال هذا الحدث الكبير، أملًا في إيجاد المؤشِّرات الكفيلة بتحديد المدى الذي يمكن أن تصل إليه اختبارات القوّة المتبادَلة بين واشنطن وموسكو في أماكنَ مختلفةٍ من العالم، ولا سيّما بعدما نُشِرت في حينه تحليلاتٌ جادّةٌ ورزينةٌ مؤدّاها “أنّ روسيا ماضيةٌ في اختبار قوّة الأميركيّين في أوكرانيا وأنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة ماضيةٌ في اختبار قوّة الروس في سوريا”، علمًا أنّ العديد من الخبراء العسكريّين المستقلّين سارعوا منذ البداية إلى القطع ما بين الشكّ وما بين اليقين عن طريق الإفصاح أمام الدوائر المختصَّة بأنّ الإنجازات الميدانيّة التي تمكَّنت روسيا من تحقيقها خلال الأسبوع الأوّل من عمر حربها على آفة الإرهاب تفوَّقت من حيث أهمّيّتها التكتيكيّة على كلّ ما حقَّقه “التحالف الستّينيّ” بقيادة الولايات المتّحدة في سياق حربه على الآفة عينها خلال عامٍ كاملٍ من الزمان، ناهيك عن أنّ إدارة الرئيس فلاديمير بوتين كانت قد نجحت بامتيازٍ قبل ذلك بعدّةِ أشهرٍ في حسم الجزء الأهمّ من الملفّ الأوكرانيّ لصالحها إثر قيامها بإعادة ضمّ شبه جزيرة القرم إلى السيادة الروسيّة من دون إراقة قطرةِ دمٍ واحدةٍ على الإطلاق، وكذلك في تأمين بقاء قِطع أسطولها البحريّ في أماكن تواجدها التقليديّة في قاعدة سيفاستوبول المطلَّة على البحر الأسود لعشرات السنوات المقبلة، الأمر الذي ما لبث أن ساهم إلى حدٍّ كبيرٍ في فتح شهيّة أولئك الخبراء على مواصلة البناء فوق قناعاتهم الراسخة بأنّ مجالات تفوُّق الروس على الأميركيّين، سواءٌ في الحالة الأوكرانيّة أم في الحالة السوريّة، لن تتوقَّف حتّى إشعارٍ آخر عند أيِّ حدّ.
أخلاقيّات الحرب
لا شكّ في أنّ المتابعين للشأن الروسيّ عن قربٍ يعرفون تمام المعرفة أنّ لسرِّ هذا التمايُز الآنف الذكر علاقةٌ مباشِرةٌ بما كان ناسك القلم اللبنانيّ ميخائيل نعيمة قد ذكره في إحدى مقارباته حول رواية “الحرب والسلم” لعميد الأدب الروسيّ ليو تولستوي عندما قال “إنّ الروح الروسيّة تتطلّع دائمًا إلى المحبّة والسلام والاستقرار، وعدم مقاومة الشرّ بالشرّ، والبحث عن النظام في الفوضى، وعن الحياة في الموت”، وخصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار أنّ أهمّيّة استحضار هذه المقولة التي خطَّها ابن بسكنتا بقلمه المبدع من وحي معايشته اليوميّة للواقع الروسيّ أثناء إقامته خلال الحقبة السوفييتيّة في تلك البلاد المترامية الأطراف، معطوفةً على ما شهدناه من تجسيدٍ واضحٍ لأخلاقيّات الحرب على جبهات القتال خلال السنوات الثلاث الماضية، تأتي اليوم على خلفيّة وجوب التأكيد على حقيقةٍ مفادها أنّ القرار الذي اتّخذه الرئيس فلاديمير بوتين في شهر أيلول (سبتمبر) عام 2015 بشأن بدء العمليّات العسكريّة ضدَّ الإرهاب في سوريا، لم يكن أكثر أو أقلّ من تعبيرٍ صادقٍ عن إحدى تجلّيات الروح الروسيّة، حيث البحث عن النظام، عبْر دعم مؤسّسات الدولة السوريّة والحيلولة دون انهيارها، في الفوضى التي خلَّفتها عبثيّة ممارسات الأطراف المتصارعة، وعلى رأسهم عناصر تنظيم “داعش” الظلاميّ، كان بحدّ ذاته من بين الأهداف الرئيسيّة التي حدَّدتها القيادة الروسيّة لسقف تلك العمليّات، تمهيدًا لإتاحة الفرصة أمام التوصُّل إلى الحلّ السياسيّ، من دون إغفال دور رموز المعارَضة المعتدِلة الذين فتحت لهم موسكو أبوابها على الدوام، الأمر الذي أوشك على أن يتحقّق بالفعل على المدى المنظور في ظلّ الحديث الدائر في هذه الأثناء عن الاستعدادات الجارية على قدمٍ وساقٍ للبدء بمرحلة إعادة إعمار سوريا.
المفارقة الغريبة
وفي سياق الحديث عن أخلاقيّات الحرب عند الروس، لا بدَّ من الإشارة هنا إلى نقطةٍ بالغةِ الأهمّيّة، وتتمثَّل في أنّ الرئيس بوتين، عندما أعلن اعتزامه شنّ الحرب على الإرهاب في سوريا، لم يخرج إلى حديقة قصر الكرملين على غرار ما فعله نظيره جورج دبليو بوش، عندما توعَّد دول العالم وانتهك سيادتها من حديقة البيت الأبيض بتصريحه الناريّ الذي افتتح به موسم حربه على “تنظيم القاعدة” في أفغانستان عام 2001، والذي جاء فيه: “من ليس معنا فهو مع الإرهاب”، بل إنّه، أيْ الرئيس بوتين، ذهب إلى مقرّ الشرعيّة الدوليّة في نيويورك، وألقى خطابه أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، ودعا إلى تشكيل تحالفٍ دوليٍّ ضدّ الإرهاب على غرار التحالف الذي تشكَّل ضدّ النازيّة خلال الحرب العالميّة الثانية، تمامًا مثلما دعا العلماء المسلمين، وهذه نقطةٌ بالغةُ الأهمّيّة أيضًا، إلى أن يقولوا كلمتهم الحاسمة بشأن “داعش”.
وإذا كانت “هيئة العلماء المسلمين” قد تأخَّرت كثيرًا في قول تلك الكلمة الحاسمة، لاعتباراتٍ سياسيّةٍ بحتةٍ، فإنّ أغرب ما حدث في مثل هذا الشهر من عام 2015، كان قد تجلّى لدى قيام العشرات من مشايخ الهيئة بالتظاهر أمام مقرّ السفارة الروسيّة في بيروت للتنديد بما وصفوه بـ “الحرب الصليبيّة على سوريا”، وذلك بالتزامُن مع قيام إمام وخطيب المسجد الحرام في مكّة المكرّمة الشيخ ماهر المعيلقي بالمشاركة مع عشرات المسلمين الروس في فعاليّات مسابقة حفظ وتجويد القرآن الكريم داخل الجامع الكبير في موسكو، تمامًا مثلما تجلّى أيضًا في اليوم التالي لدى قيام الشيخ المعيلقي نفسه بإلقاء خطبة الجمعة أمام المصلّين في العاصمة الروسيّة بينما كان خطباء المساجد في مدينة طرابلس اللبنانيّة يحفِّزون المصلّين على “تحويل الأرض السوريّة إلى مقبرةٍ للغزاة الصليبيّين القادمين من روسيا”، على حدِّ تعبيرهم، الأمر الذي إنْ دلّ إلى شيءٍ، فهو يدلّ إلى الجهل بعينه في مجال إقحام الدين في أماكن لا تليق به، وخصوصًا في بلدٍ مثل لبنان الذي درجت العادة على أن لا يتأخَّر في توفير “مخالب القطط” و”ملاقط النار” لكلِّ من يبحث عنها، سواءٌ في الخارج الإقليميّ أم في الخارج الدوليّ، من أجل تنفيذ أجنداته الخاصّة في الداخل والخارج على حدٍّ سواء، وغالبًا على حساب اللبنانيّين، ولو إلى حين.
إبرة البوصلة
على هذا الأساس، يُصبح في الإمكان القول إنّ الهواجس الروسيّة كانت تتمثَّل خلال تلك الفترة، أيْ عام 2015، في الخشية من خروج ما يمكن تسميته بـ “شطحات التحالف الستّينيّ” الذي شكَّله الرئيس باراك أوباما لمحاربة “داعش” قبل ذلك بعامٍ كاملٍ عن السيطرة، ولا سيّما أنّ إدارة الرئيس بوتين لم تكن تحتاج إلى التمتُّع بالكثير من سمات النباهة لكي تدرك أنّ ما جاء في إعلان أوباما وقتذاك عن “أنّ الحرب على داعش ستستغرق زهاء العشرين عامًا على الأقلّ”، يعني في إطار ما يعنيه أنّ الولايات المتّحدة عازمةٌ على استنزاف المنطقة من محيطها إلى خليجها لمدّة عشرين عامًا على الأقلّ، الأمر الذي دفع موسكو، إضافةً إلى عواملَ عديدةٍ أخرى، إلى الإسراع في التحرُّك عسكريًّا، أملًا في دفع ذلك التحالف الستّينيّ إلى “تصويب” إبرة بوصلة حربه على الإرهاب، على أساس مبدأ البحث عن النظام في الفوضى، حسب ما أشار إليه ميخائيل نعيمة في مقاربته الآنفة الذكر، وبالتالي، سعيًا إلى ترسيخ ثوابت الموقف الذي كان الرئيس بوتين قد عبَّر عنه لدى انتخابه للمرّة الأولى عام 2000، وخصوصًا عندما قال: “إنّ روسيا الاتّحاديّة دولةٌ ما زالت تمتلك الكثير من عناصر القوّة، وهي ترغب في استخدامها مع الآخرين، وليس ضدَّهم، من أجل إقامة عالمٍ متعدِّدِ الأقطاب”.
(يتبع غدًا: 2 ـ 3 عقدة الغاز العالميّة)