خيرالله خيرالله
ودّع لبنان البطريرك نصرالله بطرس صفير في مأتم مهيب شارك فيه انتهازيون لم يكنّوا للبطريرك أي تقدير في يوم من الأيّام. معه، ودّع لبنان آخر رموز الصلابة المسيحية في وجه الوصاية، أيّا تكن هذه الوصاية على البلد.
بين من ودّع البطريرك، الذي كان بطريرك لبنان، كثيرون لم يستوعبوا رسالته التي تختزلها تلك القدرة التي امتلكها على التفريق بين الحقّ والباطل، بين الصدق والكذب، بين التواضع والبحث عن الجاه والثروة والكلام الخالي من أي مضمون بعيدا عن كلّ ما له علاقة بالتعاليم المسيحية.
كان الرجل، القليل الكلام، من طينة مختلفة لا علاقة لها بممارسات معظم السياسيين اللبنانيين، خصوصا بعض الزعماء الموارنة المستعدين لكلّ شيء من أجل الوصول إلى موقع رئيس الجمهورية، بما في ذلك التحالف مع “حزب الله” من دون معرفة ما يمثّله “حزب الله” وما هو الدور الذي يلعبه، في لبنان وخارجه، بصفة كونه مجرّد لواء في “الحرس الثوري” الإيراني.
تكمن أهمية البطريرك صفير في أنّه فهم باكرا معنى الطموحات السورية في ما يخصّ لبنان. هناك أجيال سورية نشأت على فكرة أنّ لبنان “خطأ تاريخي” وأنّ الهدف من قيام لبنان المستقل هو حرمان سوريا من جزء من أراض تشكّل سوريا الطبيعية التي تشمل فلسطين أيضا. ألم يكن حافظ الأسد يقول في تبريره لوضع اليد على لبنان إن سوريا ولبنان “شعب واحد في بلدين”، مع ما يعنيه ذلك من اضطراره، لأسباب خارجة عن إرادته، إلى الاعتراف بوجود بلدين يقسمان شعبا واحدا.
ألم يكن الأسد الأب يحلم بتصحيح هذا الخطأ التاريخي عبر تسليح الفلسطينيين وإرسال آلاف من هؤلاء إلى لبنان من أجل تبرير وضع يده على البلد من زاوية أن ثمّة حاجة أميركية إلى من يضبط السلاح الفلسطيني في لبنان بغية تفادي حرب ذات طابع إقليمي؟
قبل وصول البعث إلى السلطة في سوريا، تمهيدا لقيام نظام أقلّوي بدأت تتبلور ملامحه مع تسليم الجولان في 1967 ثم احتكار حافظ الأسد للسلطة في 1970، كان لدى نصرالله بطرس صفير، ولم يكن بعد بطريركا، هواجسه. كان يعرف منذ زيارته لدمشق في العام 1962 أن هناك لدى الحاكم السوري فهما خاطئا لما هو لبنان كدولة عربية مستقلّة تمتلك نظاما مختلفا عن بقية الدول العربية في منطقة المشرق.
لم يؤد هذا الفهم العميق للأطماع السورية بلبنان إلى تجاهل الوضع الداخلي اللبناني والحاجة الدائمة إلى توازن بين المسلمين والمسيحيين من أجل حماية لبنان. المرجّح أن هذه الحاجة إلى التوازن التي لم تفارق يوما نصرالله صفير، قبل أن يصبح بطريركا في العام 1986، وليدة العلاقة بينه وبين البطريرك بطرس بولس المعوشي الذي جعل منه مدير مكتبه. ففي عهد المعوشي، كان المطران صفير أمين السرّ للبطريركية المارونية التي عرفت كيف يكون البقاء على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين طوال أحداث 1958 في عهد الرئيس كميل شمعون.
شكّل نصرالله صفير حاجزا في وجه التهوّر الذي يمكن أن يأخذ لبنان إلى مغامرات جديدة هو في غنى عنها في هذه الأيّام التي تبدو فيها إيران مصرّة أكثر من أي وقت على تأكيد أن وصايتها على لبنان وجدت لتبقى، وأن من حقّها وراثة الوصاية السورية بعدما استطاعت ملء الفراغ الذي نجم عن خروج القوّات السورية من لبنان في نيسان – أبريل من العام 2005، مباشرة بعد اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط – فبراير من تلك السنة.
ترك نصرالله صفير فراغا ليس بعده فراغ. منذ خرج من موقع البطريرك الماروني في العام 2011، لم يعد هناك صوت مسيحي قادر على أن يلعب دورا، لا على صعيد الطائفة ولا على الصعيد الوطني. يأتي غياب هذا الدور في ظلّ الحاجة اللبنانية إليه أكثر من أيّ وقت. لم يكن نصرالله صفير بطريرك الموارنة. كان بطريرك لبنان، كلّ لبنان. لهذا السبب وقبل أي سبب آخر يفتقده اللبنانيون ويفتقدون خصوصا تلك القدرة التي امتلكها على مقاومة الوصاية الخارجية، أي وصاية، بكلام بسيط من نوع “لقد قلنا ما قلناه”.
كان الرجل فريدا من نوعه على صعيد شبكة العلاقات التي أقامها مع اللبنانيين الشرفاء الذين آمنوا بلبنان. لهذا السبب كان قريبا من الشيخ محمّد مهدي شمس الدين رجل الدين الشيعي الذي فهم لبنان في العمق. كذلك، ارتبط بعلاقة خاصة بالرئيس حسين الحسيني الذي لعب دورا أساسيا في ولادة اتفاق الطائف الذي ساهم في وضع حدّ للحرب اللبنانية التي كانت حروبا بين اللبنانيين أنفسهم وحروب الآخرين على أرض لبنان.
يتساءل كثيرون ما سرّ العلاقة الخاصة التي ربطت رفيق الحريري بالبطريرك صفير، وهي علاقة جعلت رفيق الحريري يقول إن البطريرك صفير يقول ما لم يكن يستطيع هو قوله. سرّ تلك العلاقة الرغبة في إعادة الحياة إلى لبنان. هذا كلّ ما في الأمر. وهذا ما يفسّر رد فعل البطريرك على اغتيال رفيق الحريري وتهيئة لبنان، قبل سنوات من وقوع تلك الجريمة، كي يكون مستعدا لساعة خروج هذه القوات وتوابعها من لبنان.
من الواضح، أن هذا الاستعداد لم يكن كافيا نظرا إلى تمكّن إيران، عبر أداتها اللبنانية، من أخذ المبادرة والتمهيد بوسائل مختلفة، من بينها حرب صيف العام 2006 إلى تحويل هذه الحرب إلى انتصار على لبنان واللبنانيين بدل أن تكون انتصارا على إسرائيل.
سنوات مرّت على خروج القوات السورية من لبنان. سنوات مرّت على مرحلة ارتفعت فيها الآمال بعودة لبنان إلى لعب دوره على الصعيد الإقليمي كبلد حرّ ومستقلّ بعيدا عن أي وصاية. سنوات مرّت على غياب الشخصية القادرة على لعب دور في مجال الجمع بين اللبنانيين حول فكرة لبنان الواحد القادر على استعادة قراره العربي أوّلا.
بعد كلّ هذه السنوات، شيّع اللبنانيون نصرالله صفير إلى مثواه الأخير، لكنّهم لم يشيعوا معه الأمل بعودة لبنان دولة مستقلّة حرّة ذات سيادة. فما آمن به نصرالله بطرس صفير يظلّ أقوى من أي وصاية ومن أي احتلال.
رحل البطريرك، لكن إيمانه بلبنان لم يرحل معه وذلك على الرغم من الصعوبات الكبيرة والتعقيدات الداخلية والإقليمية التي تحولُ في الوقت الراهن دون تعليق أي آمال على مستقبل أفضل للبنان.
لكنّ ما لا بدّ من العودة إليه في نهاية المطاف أنّ فكرة لبنان التي دافع عنها كلّ من ارتبط بعلاقة قويّة بالبطريرك الراحل، رفيق الحريري… إلى ريمون إدّه، مرورا بوليد جنبلاط ونسيب لحّود وسمير فرنجية وآخرين، ما زالت قائمة. فكرة لبنان الذي لا يكون فيه المسيحي مجرّد غطاء لـ”حزب الله” ولإيران ما زالت قائمة. إذا كانت مثل هذه الفكرة ما زالت قائمة، فذلك يعود في جانب كبير منه إلى نصرالله صفير ولا أحد غيره. لبنان لم يدفن مع دفن بطريرك لبنان.
العرب اللندنية