انشغل الشارع السوري مؤخرا بحدثين تشابها في مضمونيهما وتزامنا بمصادفة تبدو غير عفوية؛ أولهما ما أثاره تسريب بعض فقرات من المرسوم التشريعي رقم 16 الصادر بتاريخ 20 أيلول/سبتمبر والمتعلق بتنظيم عمل وزارة الأوقاف الجديد وصلاحياتها، والثاني ما أثاره نشر مقاطع فيديو للشيخ الدكتور محمد خير الشعّال من جدل على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو خطيب أحد أكبر جوامع العاصمة دمشق وأحد أشهر رجالات الدين في السنوات الأخيرة.
سبق للشعّال أن ظهر في مقطع فيديو يدعو لتحجيب الفتيات في سن التاسعة ووصف المدارس المختلطة باللادينية. وفي مقطع آخر له يسخر ويتهكم من تسمية بعض المسلمين أبناءهم بأسماء بدت له هزلية، وهي في الحقيقة تمس مكونات ومعتقدات دينية في المجتمع السوري مثل اسم “ريتا”، مما دفع بمحامية شابة إلى رفع دعوى قضائية ضد الشيخ الشعّال (وتعتبر الدعوى سابقة قانونية شديدة الجرأة) وتجريمه بحسب القانون السوري، متهمة إياه بإثارة النعرات الطائفية والمذهبية، والحض على الكراهية وإضعاف الشعور القومي في زمن الحرب، واتهام النساء بالفجور وغيره؛ الأمر الذي دفع الشعّال يوم الخميس الفائت إلى تقديم اعتذار علني عبر حسابه على “فيسبوك” مؤكدا احترامه للخصوصيات ولكل أطياف الشعب السوري، وموضحا أن مقاطع الفيديو مجتزأة من دروسه القديمة، وملمحا بشكل ضمني بأن تسريبها في هذا الوقت جاء للنيل من مكانته وسمعته وحرصه الدائم على المحبة ووحدة الصف.
أما المخاوف والهلع والهواجس التي حركها تسريب وتفسير بعض فقرات المرسوم التشريعي رقم 16 على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي ما زال يعتبر مشروعا يخضع للدراسة من قبل اللجان المختصة ولم يتم إقراره في مجلس الشعب السوري حتى اللحظة، فتتلخص بالخشية على “علمانية” الدولة السورية المفترضة مع توسيع صلاحيات وزير الأوقاف وتفسير بعض فقرات المرسوم على أنها “أسلمة” للمؤسسات والهيمنة على حياة المجتمعات السورية ذات التنوع الديني والمذهبي. على سبيل المثال الفقرة التي تعزز دور فريضة الزكاة، وتفسيرها على أنها تجعل من الزكاة أشبه بالضريبة الاجبارية، أو التساؤل المحفوف بالقلق حول دور الفريق الديني الشبابي التطوعي الذي ستعتمده وزارة الأوقاف وتشبيهه بجماعات “الأمر المعروف والنهي عن المنكر” المنتشرة في عدد من الدول العربية ومنح هذا الفريق الديني الشاب امتيازات مالية واعفاءات جوهرية خاصة وشديدة الإغراء ما سيدفع بأغلب الشباب إلى الانتساب إليها وبالتالي زيادة الصبغة الدينية للمجتمع. أما الفقرة التي أثارت الحساسية الأكبر فهي منح الصلاحية لوزير الأوقاف باستثناء شرط التمتع بالجنسية السورية لمن يرى تكليفه للعمل الديني لضرورات المصلحة العامة.
لإيقاف أو لتخفيف حدة هذه “الثورة الافتراضية” التي أثيرت على مواقع التواصل الاجتماعي، خرج وزير الأوقاف السوري عبر منبر إعلامي رسمي، ليتحدث عن تزوير نسخ المرسوم ونشرها لأغراض عدائية قبل أن ينشر في الصحف الرسمية، موضحا أهمية مشروع المرسوم لتطوير عمل الوزارة وضبط العمل الديني ومأسسته ومحاربة الفكر الإرهابي والتكفيري المتطرف كالوهابية والإخوان المسلمين، معتبرا أن الفريق الديني الشبابي “تجربة رائدة” وأن هذا الفريق الشاب قادر على الحوار والتعامل مع تطور الحياة، مختتما أن المرسوم وطني وسابقة في العمل الديني ضمن العالم الإسلامي.
كل التوقعات العامة والشخصية تشير إلى أن المرسوم سيتم إقراره قريبا، وقد يتم تعديل بعض فقراته بحسب نتائج الدراسات التي ستقدمها بعض اللجان الخاصة، لكن كل ما تقدم أعلاه يشير، إذا ما نظرنا إلى نصف الكأس الممتلئ، إلى بدء حراك مجتمعي ومدني مستجد ونشط ومبشر، يؤكد وعي المجتمع السوري وحرصه ودفاعه المستميت عن خصوصيات مكوناته وتعدديته، وهو أمر لا ينسب إلى إفرازات الحرب المستمرة منذ سبع سنوات، وإن كان للحرب دورها الأكبر في بلورة هذا الوعي بشكل أكثر حساسية وإدراكا، بل يمكن التأكيد على عودة وتجلي طبيعة الشعب السوري الأساسية وتعايش كل مكوناته وأطيافه منذ آلاف السنين، وكان من الطبيعي أن تلعب الحرب ـ مثل أي حرب ـ دورها في الانقسامات والتحزبات وإثارة المظلوميات الطائفية والعرقية وغيرها.
كما يمكن اعتبار هذا الحراك بمثابة جس نبض مجتمعي نجح في المدى القريب المنظور في إبداء حرصه على طبيعته الرئيسة الكارهة لكل أشكال التطرف والتعصب والإرهاب، مع أهمية الإشارة إلى أن المجتمع السوري مجتمع محافظ ومتدين بكل أطيافه، وأن مدينة مثل دمشق بشكل خاص، هي مدينة متدينة تاريخيا حتى النخاع وحكمها الإسلام السياسي لعقود، لكن تدينها كان بالعموم مقبولا ومعتدلا، وهو ما يؤمل بالحفاظ عليه دونما إكراه ديني أو أي شكل من أشكال الاستبداد، وفي واقع الأمر فإن الاستبداد الأكبر الذي يعيشه معظم الشارع السوري اليوم هو استبداد الفقر والجوع حتى العوز والخوف من المجهول.
الملفت أيضا في ردود الفعل اتجاه القضيتين أعلاه، هو التوافق الأول بين الأصوات العلمانية في المعارضة والموالاة، وبالتأكيد التوافق بين المتدينين في الفريقين لصالح أي توجه يزيد من أسلمة المجتمع، دونما إغفال لبعض الحسابات السياسية من الأصوات المعارضة في ما يخص مشروع المرسوم، مما يشير إلى أن الانقسام السوري اليوم، في أحد أهم مفاصله الرئيسة، هو بين علمانية الدولة والأسلمة، وداخل كل فريق على حدة، وهو ما أكدته لقاءات جنيف وغيرها.
تبقى الاشارة إلى أنه وفيما الشارع السوري منشغل بهذين الحدثين، قام تنظيم “داعش” الإرهابي بتنفيذ تهديداته وأعدم قبل أيام الشابة ثروت أبو عمار، إحدى الرهائن المختطفات من مدينة السويداء، دون أن تثير هذه الفجيعة كثيرا من التأثير والتعاطف الاجتماعي المطلوب، إلا بين من يعنيهم الأمر بشكل مباشر أو بعض الناشطين، لا أكثر.
الحرة