العالم
الغموض يكتنف إرادة حكومة كولومبيا في وقف نزيف الدم
ـ بوسا ـ منذ سنوات شبابه كان خوان مينيسيس يعتقد أنه خلق لكي يدافع عن الشرائح المجتمعية التي تعرضت حقوقها للانتهاك.
وفي تلك الفترة قاوم هذا الناشط المدافع عن حقوق الإنسان خلال إقامته في بلدة تيكويسيو الكائنة في المنطقة الشمالية من كولومبيا، الجماعات المسلحة التي حاولت أن تمارس الضغوط على الصبية لضمهم إليها أمام أبواب مدرسته.
ويتذكر مينيسيس البالغ من العمر 36 عاما تلك الأيام قائلا: “تلقيت إنذارا يقول إنه يتعين علي أن انضم إلى الجماعات المسلحة، وإلا سأتعرض للقتل”، كما احتج هذا الناشط في وقت لاحق على وقوع مظالم أخرى، واضطر إلى التنقل من مكان لآخر أكثر من ست مرات خوفا على حياته.
ويعرف مينيسيس بأنه زعيم في المجال الاجتماعي، وقتل في هذا المجال أكثر من 900 ناشط منذ عام 2009، وتتزايد عمليات القتل في صفوف النشطاء بمعدلات سريعة.
ويقول المنتقدون إن حكومة الرئيس إيفان دوكي ليس لديها إرادة حقيقية لوقف نزيف الدم، والذي يتردد أنه يخدم مصالح أطراف ينتمون لطبقة السياسيين ورجال الأعمال.
وعندما كان مينيسيس يعيش في بلدات ومدن في مختلف أنحاء كولومبيا، شارك في عمليات احتجاج، وكذلك في تدشين مشروعات تهدف إلى مساعدة الفقراء أو الأشخاص النازحين، على الحصول على شبكة أفضل من الطرق وخدمات المياه والسكن، وتحدى الناشط السياسيين وأصحاب مزارع قصب السكر الذين بدا أنهم يسعون للاستيلاء على أراضي الفلاحين.
وتعرض العديد من زملائه النشطاء للقتل، وجرت محاولة لاختطاف الابن الصغير لمينيسيس، بل إنه نجا من هجوم بالطعن تعرض له ببلدة زرزال بالمنطقة الغربية من البلاد.
ويعرب الرجل عن إيمانه بقضيته، وهو يقول بابتسامة على شفتيه مشوبة بالقلق إن “الحدث الذي لا يقتلك يجعلك أكثر قوة”، وهو يقيم الآن منذ عشرة أشهر في ضاحية بوسا الكائنة على مشارف العاصمة بوجوتا.
وتزايدت عمليات قتل العاملين بالمجال الاجتماعي في كولومبيا بنسبة 44% لتصل إلى ما إجماليه 155 عملية قتل العام الماضي، وذلك وفقا لما تقوله منظمة “سوموس ديفنسوريس” الحقوقية غير الحكومية.
وذكر مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أنه وقعت 51 عملية قتل للنشطاء خلال الفترة من كانون ثان/يناير حتى نيسان/أبريل من عام .2019
وتشمل قائمة الضحايا نشطاء في مجال حقوق الإنسان وحقوق الأراضي والمعارضين للفساد، وكان آخرون من الذين قتلوا قد طالبوا بزراعة محاصيل بديلة لمكافحة الإتجار في المخدرات، بدلا من زراعة الكوكايين.
وهناك آخرون – وكثير منهم من السكان الأصليين – تعرضوا للقتل لمعارضتهم إقامة مشروعات تعدين ضارة بالبيئة، كما أن بعض الضحايا كانوا نشطاء في العمل السياسي اليساري.
وعندما وقع الرئيس الكولومبي السابق خوان مانويل سانتوس، الذي سبق دوكي اتفاقية سلام عام 2016، مع منظمة “فارك” اليسارية المتطرفة التي مارست حرب العصابات، تزايدت الآمال بأن تنعم البلاد بالسلام أخيرا بعد أن عانت من الصراع المسلح.
ومع أن الجيش لم يعد بحاجة إلى قتال أعضاء منظمة “فارك” البالغ عددهم سبعة آلاف رجل بعد أن تم تسريحهم، فإن انسحاب المتمردين من المناطق الريفية ترك فراغا في النفوذ، سرعان ما ملأته جماعات مسلحة أخرى.
ومن بين هذه الجماعات منظمة “جيش التحرير الوطني” الأصغر حجما، إلى جانب فصائل منشقة من منظمة “فارك” وجماعات شبه عسكرية، أمثال الجماعات التي تم تشكيلها أصلا لمقاتلة المتمردين اليساريين، بالإضافة إلى مهربي المخدرات الذين يتعاونون مع كل من رجال حرب العصابات والجماعات شبه العسكرية.
ويرى المراقبون أن التواجد المتزايد لهذ الجماعات التي تسعى للسيطرة على السكان المحليين وأراضيهم، وتزايد الصرع بينها، قد أسهم في وفيات زعماء الحركات الاجتماعية.
وقللت الحكومة الكولومبية من أهمية عمليات القتل باعتبارها جرائم فردية منعزلة، وألقت بمسؤولية وقوعها على رجال حرب العصابات وعصابات المخدرات.
غير أن معظم مرتكبي جرائم القتل، الذين تم تحديدهم، ينتمون إلى الجماعات شبه العسكرية، وذلك وفقا لما يقوله دييجو تشافيز العضو باللجنة الكولومبية لخبراء القانون.
ويوضح تشافيز أن هناك دليلا على أن الجماعات شبه العسكرية لديها علاقات بملاك الأراضي، ومربي الماشية ورجال الأعمال المستثمرين في الأخشاب وزيت النخيل، وسياسيين محليين بل وسياسيين على المستوى الوطني ينتمون إلى حزب “الوسط الديمقراطي” الذي يتزعمه الرئيس دوكي، وغيره من الأحزاب المحافظة.
ولا يريد هؤلاء أن يتنازلوا عن أراضيهم لصالح مجموعات من الأشخاص الذين أصبحوا بلا مأوى بسبب الصراع المسلح في البلاد، والبالغ عددهم سبعة ملايين مواطن، وكذلك السكان الأصليين الذين يطالبون بأحقيتهم في أراضي أجدادهم، كما لا يريدون الامتثال لمطالب جماعات حماية البيئة التي تعارض التنقيب عن الموارد الطبيعية.
بينما لا تشير الدراسة التي أجرتها اللجنة الكولومبية لخبراء القانون إلى وجود “عملية على المستوى الوطني” للقضاء على زعماء العمل الاجتماعي في كولومبيا، غير أن شافيز عضو اللجنة يرى أن بعض عمليات القتل تأتي تنفيذا لخطة للتخلص من بعض الروابط الخاصة بالسكان المحليين أو الفلاحين.
كما يشير التعاون من آن لآخر بين الجماعات شبه العسكرية والمجرمين من ناحية، وقوات الأمن من ناحية أخرى ، إلى تورط رسمي في عمليات القتل، وفي حالة خوان مينيسيس فإن الرجل الذي طعنه، وهو يسير في الشارع تلقى مساعدة من ضابط شرطة، تم تكليفه بحماية الناشط كحارس شخصي له.
وتوضح هذه العلاقة ديانا سانشيز من منظمة “سوموس ديفنسورس” بقولها إن “الجماعات المسلحة تتحرك بحرية في مختلف البلدات الصغيرة نسبيا، حيث يعلم الجميع هويتهم، ولكن لا يمكن رؤية الشرطة في أي مكان”.
وتعهد الرئيس دوكي بأنه لن يكون هناك أي إفلات من العقوبة بالنسبة للمعتدين، غير أن التحقيقات في عمليات القتل، أسفرت عن إصدار أحكام بحق ما نسبته أقل من 10% من الحالات، وفقا لما قالته منظمة “سوموس ديفنسورس” في تقرير لها. (د ب ا)