ومُذْ حملتُ كتابي الأولَ، على كتِفي، بانتظار الانتهاء منه، لأحمل آخر… آمنتُ بأن تمامَ إدراكِنا للحياة وفلسفتها، لا يصيرُ إلا بطرح الأسئلة…
وآمنتُ أيضاً، بأنها؛ أي الأسئلة… هي طعمُ الوعي فينا… وبأنها، حبرُنا الذي متى غمسناهُ في رئة غيمِ غدِنا، تهطلُ الأجوبة مطراً يبرعمُ فينا بعضَ أملٍ متجددٍ.
قبلها، لم أكُن أعرفُ بأن الأسئلة، التي امتهنتُ لاحقاً صناعتَها، ستصيرُ سبيليَ، لأملأَ سلالَ أبنائي برغيفٍ حلالٍ طازج.
وبأنني، متى قرَّرتُ التوقفَ عن طرحِها، استحلتُ طريداً في مهبِّ الجهل.
كلمَّا قرأتُ ديواناً لشاعرٍ عظيمٍ، رأيتُني أخرجُ من ديوانه كمن ينزِلُ السُلّمَ على هيئة أسئلة… سريع الخطى أنزلُ،
يجرُّني عقلي إلى سوقِ أسئلة…
تُرى، ما هو السرُّ الكامنُ وراء تفوُّق الشاعرِ، على من سواه من الناس، على امتداد تاريخ العرب؟ لا… بل على امتدادِ تاريخِ البشر؟
ألِأنهُ، يُحسنُ تنويمَنا على أحلامٍ تشبهُهُ، وتشبِهُنا؟
ألِأنهُ، حينَ تهزِمُنا الظلالُ الشاحبة، يأتينا كمن يُهدِينا الضوءَ مقطوفاً، من غصنِ الفجر؟!
ألِأنهُ، يُطرِّزُ لنا عباءة من أحرفٍ، ويُدندِنُ لنا نَغماً يُنعِشُ الخيال؟
أم لأنه، يقولنا كما نشتهي؟!
أم لأن شاعراً، مثل محمد مهدي الجواهري (ت 1997)، حينَ ينقعُ الدنيا بمائه، ثم ينشرها أمامنا بيتَ شعرٍ عابقٍ به، تصيرُ أحلى؟
تأمَّلْه يبدع في حديثه عن ديوان العرب، قائلاً:
يا موطِنَ السحرِ إن الشعرَ يُنعِشهُ
فيضٌ من الحسن في واديكَ معهودُ
خيالُهُ من خيالٍ فيك مأخذُهُ
ولُطف معناه من معناكَ توليدُ
اهتاجَني موعدٌ لي فيكَ يجمعُني
كأنني بالشبابِ الطلقِ موعودُ
وريعُ قلبي من ذكرى مفارقة
كأنني من جنان الخلد مطرودُ
لا أبعدَ الله طيفاً منك يؤنسني
إذا احتوتْنِيَ في أحضانها البيدُ
أسئلة بحجمِ الأرضِ، ساعة تكونُ مُشرّعة الجهاتِ… والإجاباتِ كذلك… وأسئلة على قياسِ لغة ضادنا الجميلة، حينَ تكونُ بِكراً فاتنة لم يُفلسِفُها أحدٌ بعد، والإجابات كذلك.
لأجل ذلك كله، مما يحضُرُني، ولا يحضُرُني، مما أعلمه ولا أعلمه، حاولتُ أن أصير شاعراً، ككلِ عربيٍّ… ككلِ أحدٍ… وفشلتُ!
ولكني، نجَحَت!
نجحتُ أن أُفلتَ من فشلي إلى حيث أنجح، حين تَعَلَمتُ من أبي الأسود الدؤلي (ت 688)، ما علّمه لأحد تلامذته، في فنِّ العروض:
إذا لم تستطع شيئاً فدعْه
وجاوزْه إلى ما تستطيعُ
وعلمني صديقي جميل صدقي الزهاوي (ت 1936)، على سبيلِ اليقينِ، حقيقة، جعلتني أُحجمُ:
إذا الشِّعرُ لم يهزُزْكَ عندَ سماعِهِ
فليس خليقاً أن يُقالَ لهُ شِعرُ
وأيضاً، نجحتُ أن أُفلتَ من فشلي إلى حيث أنجحُ، إلى حيث أرضى أن أصير ربع شاعرٍ بهم، لا شبه شاعرٍ من دونهم… إلى حيث أنصبُ خيمتي، وألتصقُ بما شردَ من شِعرهم، وأتعلم…
نعم لأتعلم… من صديقي الطُغرائي (ت 1120) أن ما يليق بي، هو حتماً، أرقى من الدّعة والكسل:
قد هيأوك لأمر لو فطنتَ له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ
وتعلمتُ، نعم، تعلمتُ من البوصيري (ت 1259)، واتخذته مستشاراً، ناصحاً، حازماً، أستعين به حين يحتاج الرأي المشورة، فحرّضني على الجد، وأخبرني بأني إن أطلقت لنفسي العنان، فسأكون مثل شابٍّ عشريني، بجسم بغل، يُدمن الرضاعة من ثدي أمه؛ إذ قال لي:
والنفسُ كالطفل إن تُهملهُ شبَّ على
حُبِّ الرضاع وإن تفطمه ينفَطِمِ
وحين أردتُ الشكوى -وهل تجد اليوم مَن لا يشكو، ولو لم يكن به ما يستحق الشكوى؟- وجدتُني ألجأ إلى أبي العلاء المعري (ت 1057)، ليُخَفِفَ عني، بقوله:
كُلُّ من في الدهر يشكو دهره
ليت شعري هذه الدنيا لِمَن؟
ولم يكن أحدٌ يُخرجني من دوامة الكآبة، مثل صديقي إيليا أبو ماضي (ت 1957)، فيُذَكِّرُني:
أيهذا الشاكي وما بكَ داءٌ
كيف تغدو إذا غدوتَ عليلاً؟!
وحين أُجيبه: يا إيليا، وكيف لا أشكو، وبيني وبين حِلمي، زمنٌ جبانٌ، وبعض تعاسة؟!
كان يوقظني، بمحبة وحزم:
أيهذا الشاكي وما بك داءٌ
كن جميلاً تر الوجود جميلاً
فأجعُرُ كشاة تُساق لحتفها: أيُّ جمالٍ في دوامة القبح هذه؟!
فيبتسم، كمن قبض في قلبه على مكمن سرِّ الحياة، قائلاً:
والذي نفسه بغير جمالٍ
لا يرى في الحياة شيئاً جميلاً
وقد عشقت ابنتي، مي، حفظها الله، لا لأردَّ لها دين، قول العرب: كل فتاة بأبيها معجبة… بل لأني أحسستُ أننا نسيرُ على خطوات كيمياء الإنسان ذاتها…
ولم أجد أني أحتاج لأعلنَ حُبي لها، إلى أن أريق المدامع، كما احتاج صاحبي، مالك بن الريب (ت 594)، وهو يرثي ابنته قائلاً:
اسكتي! قد حززتِ بالدمع قلبي
طالما حزَّ دمعُكنَّ القلوبا
فقد كانت بُنيَّتي، تريقُ مدامعي كل يومٍ، بمحبة واحترامٍ وسعادة…
وعند الدمعِ، لم أجد أصدقَ من أبي الطيب المتنبي، يوم قال:
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ
تبيَّنَ من بكى ممن تباكى!
يا أهيل الشعر:
تلك كانت شذراتٌ من قصة ربع شاعر هو العبد الفقير إلى ربه… وشذراتٌ من قصة عظامٍ هُمُ، هم: أصدقائي، أستنشقهم كلما احتجتُ إلى حكمة نظيفة… وأصعدُ سلالمهم، حكمة حكمة، بيتَ شعر بيتَ شعر، كلما احتجتُ إلى الارتفاع بحجتي… إلى فوق!