الحبيب الأسود
التعديلات المثيرة للجدل والتي تم إدخالها على القانون الانتخابي قبل أقل من أربعة أشهر على انطلاق موسم التنافس على مقاليد السلطة في تونس، لا يمكن أن تمر مرور الكرام، هناك انتقادات واسعة في الداخل بخصوص التوقيت والهدف، وهناك تدخلات غربية بالأساس، للحيلولة دون تمريرها، ولكن أخطر ما في الموضوع أنها تشي بدكتاتورية ناشئة أساسها عدم القبول بالتسليم لأحكام الصندوق، التي لا تأتي بالضرورة بمن نحب، وإنما بمن تخدمه لعبة الديمقراطية الغربية المرتبطة بالروح الليبرالية، والتي لا يمكن منطقيا اعتمادها إلا في بلد ذي مؤسسات قوية راسخة في العراقة، وهو ما لا نجده في تونس، التي يبدو أنها تورطت في تبني نموذج ديمقراطي متناقض مع واقعها الاجتماعي والثقافي، لذلك تورط حلفاء الحكم، وتحديدا حزب تحيا تونس وحركة النهضة، في اختراقه.
من حق الحكومة أن تقترح بادرة برلمانية لتعديل القانون الانتخابي، ولكن ذلك عادة ما يكون قبل عام على الأقل من الاستحقاق، وهو ما أكدته الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، لكن ما حدث أن حزبين سياسيين متحالفين حكوميا، اضطرا إلى الانقلاب على مقومات اللعبة، بعد أن فوجئا بنتائج عملية لاستطلاع الرأي كشفت أن نوايا التصويت تتجه لأطراف ظهرت فجأة في المشهد، ومن خارج التحالف الحكومي، بما تسبب في خلط الأوراق بشكل غير مسبوق.
هذه الأطراف في الأخير، تعتمد على ثقافة الصراع الديمقراطي في المجتمعات الليبرالية، حيث تمتلك الأحزاب قنوات تلفزيونية وصحفا سيارة وجمعيات خيرية، وحيث يمكن لأي شخص مهما كانت شعبويته أن ينافس على السلطة، وأن ينجح إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، أو تتحالف ضده القوى المنافسة بإسقاطه بالصندوق وليس بالقوانين الصادرة على القياس.
إن ظهور شخص كنبيل القروي وجمعية كجمعية “عيش تونسي” فجأة في استطلاعات الرأي، كان تحت أنظار الحكومة والفاعلين السياسيين، ودون أي معارضة عملية على الأرض، والحديث عن استعمالها الأموال الطائلة لن يغيّر شيئا. علينا أن نفهم لماذا يصل شخص بمساعدات خيرية، أو بخطاب خال من حذلقة السياسة إلى قلوب العامة في بلد أرهقته صراعات النخب البائسة والوعود الزائفة وخزعبلات الإعلام الخاضع لحسابات لا تخرج عن دائرة مصالح الأفراد قبل مصلحة الوطن.
منذ عام 2011 وحركة النهضة تدير مئات وربما آلاف الجمعيات المنتشرة في كل مكان، وتمتلك حضورا مهما في المساجد والكثير من الأبواق الإعلامية في الداخل والخارج، وفي كل موعد انتخابي يتم تجييش عشرات القنوات التابعة للإسلام السياسي على امتداد العالم، وآلاف المواقع والصفحات الإلكترونية لتوجيه الرأي العام لفائدتها، ولكن لا أحد يستطيع إيقاف ذلك المد، وفي أي موعد انتخابي قادم ستعتمد النهضة على ذات الأدوات، دون أن يقف أي طرف في وجهها، أولا لأن لديها من الإمكانيات ما يجعلها تتظاهر بأنها غير معنية بمن يدعمها ولا صلة لها به، وثانيا لأنها جزء من السلطة وتعرف كيف تمارس الضغوط لتبرئ نفسها من أي تهمة.
الحركة ذاتها، تصوت على الفصل 42 مكرر من هذا القانون الانتخابي الذي ينص على أنه “لا يقبل الترشح للانتخابات التشريعية لكل شخص أو قائمة تبيّن للهيئة (الانتخابية) قيامه أو استفادته خلال الـ12 شهرا التي تسبق الانتخابات بأعمال تمنعها الفصول 18 و19 و20 من المرسوم عدد 87 المتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية”، أو “تبيّن قيامه أو استفادته من الإشهار السياسي”.
الواقع أن الإعلان السياسي لدى الحركة متواصل، ولكن كيف يمكن تحديده وهي في الحكم وجزء مؤثر في كل الأجهزة والمؤسسات التي قد تحقق في ذلك، بينما يمكن محاصرة الأطراف الطارئة على المشهد السياسي والخارجة عن دائرة الحكم، حتى وإن نجحت في الانتخابات، باعتبار القانون له من القبلية ما يعطيه القدرة على الإقصاء المباشر والمنع من خوض الانتخابات، ومن البعدية ما يجعله يلاحق الفائزين والبحث في سجلاتهم القديمة والجديدة للإطاحة بهم، خاصة من خلال النص الذي جاء فيه “ترفض الهيئة ترشّحات كل من يثبت لديها قيامه بشكل صريح بخطاب لا يحترم النظام الديمقراطي ومبادئ الدستور والتداول السلمي على السلطة، أو يهدد النظام الجمهوري ودعائم دولة القانون أو يدعو للعنف والتمييز والتباغض بين المواطنين، أو يمجّد ممارسات انتهاك حقوق الإنسان”.
فمثل هذه النثريات المطلقة يسهل إسقاطها على أي طرف منافس غير مرغوب فيه، وخاصة الحزب الدستوري الحر الذي سيتهم بتمجيد ممارسات انتهاك حقوق الإنسان، اعتمادا على رفضه المعلن لقانون العدالة الانتقالية وهيئة الحقيقة والكرامة، خصوصا وأنه كان لافتا أنه تم التخلي عن فقرة تخص تمجيد الدكتاتورية، مقابل الإطاحة بفقرة تخص تمجيد الإرهاب.
إن تلك التعديلات العاجلة والطارئة، تمثل بشكل أو بآخر إعلانا عن نشوء دكتاتورية جديدة، ركيزتها أن من يوجد في السلطة اليوم لا يريد التخلي عنها ولو عبر صندوق الانتخاب، حتى وإن كان جانب من أهدافها منطقيا في بلد تتجاذبه التوازنات الداخلية والخارجية، والدكتاتورية الوليدة لن تظهر معالمها اليوم وإنما بعد الانتخابات، عندما تعلن النتائج، وخاصة إذا لم تكن كما يريدها الحزبان المتحالفان اليوم في سدة الحكم، خصوصا وأن المشهد السياسي التونسي يواجه أزمة أخلاقية، من أبرز تجلياتها رفض النهضة وتحيا تونس لتعديل يمنع السياحة الحزبية التي تعني تغيير النواب لإنتماءاتهم الحزبية والسياسية، وفق مستجدات العرض والطلب تحت قبة البرلمان.
منذ البدء كانت مسيرة الانتقال الديمقراطي خاطئة لكونها انبنت على حسابات ضيقة تعتمد مصالح الأحزاب وفي مقدمتها حركة النهضة، وأحيانا مصالح الأفراد، على حساب مصلحة الدولة، لذلك بات العمل السياسي بما في ذلك المسارات الانتخابية، يعد على المقاسات، في غياب المؤسسات القوية المحايدة القادرة على الحسم بالتدخل في إدارة شؤون اللعبة، وهذا في حد ذاته إشكال لن يكون من السهل التخلص منه.