أقلام مختارة

تونس والديمقراطية الكسيحة

الحبيب الأسود

الحبيب الأسود

الديمقراطية التونسية، تتخذ شكل الدكتاتورية التعددية التي لا يستفيد منها إلا من يتصارعون على الحكم أو يتوافقون حوله، وهي بذلك ديمقراطية شكلية أساسها شعارات معدة للتصدير.

في لحظة فارقة من عمر تجربتهم الديمقراطية الناشئة، اكتشف التونسيون أنهم فشلوا خلال أكثر من أربعة أعوام في تركيز المحكمة الدستورية. فالتجاذبات بين القوى السياسية داخل البرلمان حالت دون ذلك، والسبب أن لعبة المحاصصة الحزبية في الحكم يراد لها أن تكون سيدة الموقف في المؤسسات والهياكل الدستورية، وعوض أن يتم الاعتماد على الكفاءة والحياد، أصبحت مختلف المؤسسات خاضعة لمصالح الأغلبية بما يجعلها في خدمة الأحزاب قبل أن تكون في خدمة الدولة والمجتمع.

كثر اللغط أول أمس الخميس حول صحة الرئيس الباجي قائد السبسي، وأحد النواب قال إن البرلمان كان لمدة ساعة ونصف على الأقل، متأكدا من وفاة الرئيس، وفي الكواليس كانت هناك تجاذبات حول المرحلة القادمة، بين من يطرح فكرة الشغور الوقتي التي تؤدي إلى الدفع برئيس الحكومة إلى قصر قرطاج، وهناك من كان يتحدث عن شغور دائم ما يعني أن تؤول الرئاسة المؤقتة إلى رئيس البرلمان، لكن وحتى في هذه الحالة الثانية كانت حركة النهضة ترى أن رئيس مجلس النواب الحالي محمد الناصر مريض بدوره وبالتالي لا بد من القفز إلى نائبه الأول عبدالفتاح مورو، وهو أحد قيادييها، ليخلف قائد السبسي وفي ذلك حسابات لا تخلو من خلفيات جهوية ومناطقية وسياسية ضيقة.

عند شغور منصب رئيس الجمهورية في تونس ينص الفصل 84 من دستور 2014 على أن “تجتمع المحكمة الدستورية فورا، وتقرّ الشغور الوقتي، فيحل رئيس الحكومة محل رئيس الجمهورية. ولا يمكن أن تتجاوز مدة الشغور الوقتي ستين يوما”. و”إذا تجاوز الشغور الوقتي مدة الستين يوما، أو في حالة تقديم رئيس الجمهورية استقالته كتابة إلى رئيس المحكمة الدستورية، أوفي حالة الوفاة، أو العجز الدائم، أو لأي سبب آخر من أسباب الشغور النهائي، تجتمع المحكمة الدستورية فورا، وتقرّ الشغور النهائي، وتبلّغ ذلك إلى رئيس مجلس نواب الشعب الذي يتولى فورا مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما”.

ولكن في غياب المحكمة الدستورية حاليا لا يمكن الحديث عن أي دور لها، وهناك إجماع على تعمد عدم التوصل إلى انتخاب الأعضاء الأربعة العائدين بالنظر إلى البرلمان، حيث يشير الدستور إلى أن المحكمة تتكون من 14 قاضيا، أربعة ينتخبهم مجلس نواب الشعب، وأربعة يعينهم المجلس الأعلى للقضاء، وأربعة يعينهم نصيب رئيس الدولة، وهو ما جعل بعض القوى وعلى رأسها حركة النهضة تنتظر ما بعد رئاسيات 2019، فقد تأتي الظروف برئيس تشترك معه في اختيار نصيبه من القضاة، لكن ذلك سيؤدى إلى تلاحق الأزمات.

ومجرد خوض انتخابات مصيرية بتعديلات مؤثرة في القانون الانتخابي دون وجود محكمة دستورية، يمثّل ضربة للتجربة الديمقراطية ككل، ويؤكد أن الديمقراطية التونسية هي ديمقراطية كسيحة، والشك في مجرياتها أكثر من اليقين بصدقيتها، ولذلك أسباب عدة منها رغبة بعض الأطراف في الاستئثار بالحكم، والبقاء فيه، والاستقواء بنفوذ السلطة التنفيذية بدل الرضوخ لإحكام القضاء الدستوري، خصوصا وأن المحكمة الدستورية يفترض أن تكون أعلى سلطة قضائية في البلاد، وهي صاحبة القول الفصل بتوافق أي قرار أو مرسوم أو قانون أو حكم قضائي مع الدستور الذي هو التشريع الأعلى في البلاد ولا تجوز مخالفته.

إن غياب أو تعمد تغييب المحكمة الدستورية في هذه الفترة بالذات، يثير الكثير من الأسئلة حول حقيقة التوجهات الديمقراطية عند النخب السياسية الفاعلة ذات الأغلبية البرلمانية، وعلى رأسها حركة النهضة وحليفتها الجديدة حركة “تحيا تونس″. فبقطع النظر عن الإشكال الحالي المتعلق بصحة الرئيس فإن المرحلة القادمة ستشهد الكثير من الإشكالات المتعلقة بالانتخابات ودستورية القرارات المتعلقة بها أو الناتجة عنها أو المؤثرة على مجريات ما بعدها في ظل التجاذبات المتزايدة حولها، وخاصة بعد التعديلات الجديدة على القانون الانتخابي.

لم يعد خافيا أن الديمقراطية التونسية، تتخذ شكل الدكتاتورية التعددية التي لا يستفيد منها إلا من يتصارعون على الحكم أو يتوافقون حوله، وهي بذلك ديمقراطية شكلية أساسها شعارات معدة للتصدير، أما في جوهرها فهي أسيرة الصراعات العقائدية والأيديولوجية والمصالح الفردانية والحزبية عبر توافقات مسقطة حول اقتسام السلطة، مع اتساع رقعة التأثير الواضح لقوى غامضة تتحرك بتمويلات سخية لاقتطاع نصيبها من المشهد السياسي العام، في حين يبقى الشعب في غالبيته الساحقة مهملا، يعاني من توسع دائرة الفساد، ويُدعى مساء كل يوم إلى جدل بيزنطي على شاشات التلفزيون.

الديمقراطية الكسيحة هي تلك التي تفتقد إلى أدوات تدفع بها إلى الحركة، والتي يضمر دعاتها عكس ما يعلنون، خصوصا عندما يكونون من ذوي العقائد غير المؤمنة بها أصلا، وهي التي تبقى مجرد وجهات نظر داخل دائرة الحراك السياسي، دون أن يكون لها البعد الاجتماعي والثقافي، والتي تتأسس على أعمدة الحكم دون أن تسبقها ثورة ثقافية فعلية تغيّر وجه الصراع من تصادمي حول الحكم، إلى توافقي على القيم المجتمعية العليا، والتي لا يتم اعتمادها للبقاء في الحكم عنوة بدل تبني فكرة التداول السلمي على السلطة، لا أقصد رأس السلطة وإنما مفاصلها الصانعة لصاحب القرار.

قد تكون الثقافة المتوارثة هي الأساس، وقد يكون الشغف بالحكم، ولكن لا يجب أن نتجاهل أن الديمقراطية التونسية هي في الأصل حالة مستوردة وتبقى خاضعة للتأثيرات الإقليمية والدولية، فالفقراء لا يملكون قرارهم ولا يصنعون ديمقراطيتهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق