أقلام مختارة

مرار بيولوجي

إبتهال الخطيب

رعب خشن تطلقه كل محاولات تحرير المرأة وتمكينها في عالمنا العربي؛ رعب من خسارة الجنس الأقوى لخدمات الجنس “المستضعف”؛ سواء كانت خدمات منزلية تتمثل في عمل المرأة في البيت أو خدمات اقتصادية تتمثل في مساهمتها المادية من عملها في بيتها أو خدمات نفسية تتمثل في رضوخها الجسدي والنفسي للذكور من حولها ينفسون فيها ضغوط الحياة ويمارسون عليها السلطة غير القابلة للممارسة في الشارع أو مقر العمل ويلعبون من خلالها لعبة السيطرة المريضة التي تعوض شيئا من الهزائم المتكررة التي يعيشونها سياسيا واجتماعيا وحياتيا.

تقول زهراء منصور في مقال لها بعنوان “السقوط في شرك المسميات النسوية… لا تقترب إنه فخ”، إن التركيبات الدينية والاجتماعية تشكل مجتمعا “مؤمنا بأن الذكور قادرون على الاختيار والتوجيه، في حين أن النساء غير قادرات على الاختيار بشكل صحيح” وإنه “بهذه الذرائع، تسرق الحقوق بطريقة قانونية شرعية، وستبدو مطالب نسوية ـ إنسانية ـ مثل: منع زواج القاصرات/ عدم الإجبار على الزواج/ وقف الختان/ المساواة في أجور العمل/ العنف الأسري/ الاغتصاب/ التحرش، وغيرها من قائمة تطول وتتشكل في المجتمعات التي تضيق الخناق حسب استطاعتها، تبجحا، وتبرمج على تقديم الذكورة واعتبارها صنفا أول، بناء على تقسيم جندري ـ لا فضل له فيه ـ ولا يؤخذ بالاعتبار ما يأتي بعده”.

تتأتى التركيبات الدينية ـ الاجتماعية الذكورية الصنع من تاريخ بشري طويل اعتمد القوة الجسدية كمقياس أفضلية؛ ولهذا المقياس في حد ذاته تاريخ غائر في القدم، يخمنه الأنثروبولوجيون على أنه بدأ حين كان المجتمع الذكوري البشري، في بدايات تشكل فصيل الهوموسيبيان، يمنع الطعام عن المجتمع الأنوثي فيأسره في مجاعات ممتدة، مما دفع بتطور الأجساد الأنثوية بشكل أضعف وأقل قدرة جسدية عضلية بالعموم. أتت التركيبات الدينية الاجتماعية لتعيد صدى هذا التاريخ المتوحش القديم، ولتمثله بشكل واضح وفج في كل أنحائها وزواياها بوضع الأنثى في طبقة أقل من الذكر وبالتالي في تعيينها، منذ ولادتها، في خدمة هذا الذكر وتحت سلطة مجتمعه الأبوي الذكوري من مهدها إلى لحدها.

إن المحاولات النسائية المتجددة اليوم للخروج من هذا التاريخ الأسود الطويل من خلال نضالات متعددة طويلة في أنحاء عالمنا هذا تثير رعبا متجددا في المجتمعات الذكورية. تعتمد المحاولات النسوية على التطور الفكري والضمائري والأخلاقي والقيمي والمنعكسة جميعها في الإعلانات والاتفاقيات الإنسانية، التي تبلورت بعد تاريخ طويل من النضال والتضحية الإنسانيين، أقول هذه المحاولات النسائية المستمرة تثير رعبا قديما متجددا في مجتمعات قامت على الأفضلية الذكورية والعبودية الأنثوية. إن فكرة تحرر المرأة وتساويها ككائن إنساني خالص لا ينقص من قدره تركيبة بيولوجية أو تصنيف نفسي تحمل في طياتها خسائر جمة للمجتمعات الذكورية. فهذه المجتمعات بنيت قوائمها وتحققت إنجازاتها بالاستعباد والعنف والتمييز، طبقة تجاه طبقة، وجنس بشري تجاه جنس، حيث كانت النساء دوما في ذيل الطبقات وفي أعلى قائمة الضحايا المستعبدة.

أكاد الآن أسمع تعليقات البعض تتفوه بها الأفواه وتلوج بها القلوب، “ألم نمل من هذا الموضوع؟ توجد لدينا من المصائب ما لا يعد ولا يحصى، أهذا وقت موضوع النسوية؟ ماذا تريد النساء؟ ألم تأخذ حقوقهن ويزدن؟”. لتبدأ بعدها السخرية الآثمة حول شكوى النساء المستمرة، حول نقصهن العقلي والديني، حول ضرورة التحكم بهن ووضعهن في أماكنهن؛ دائرة مريضة يدور فيها الحوار منذ فجر القرن الخامس عشر حين بدأ بزوغ فجر نضال نسوي حقيقي. لا يتغير هذا الحوار ولا تتبدل السخرية، أما التهميش فلا عقل له ولا منطق.

وفي حين أن الغرب بدأ يأخذ خطوات جادة تجاه تحرير المرأة، متخطيا فكرة مساواتها بالرجل وذلك رفضا لوضع الرجل كمقياس للحقوق، متعديا بالمرأة إلى درجة إنسانية رفيعة تحقق هي من خلالها مستحقاتها ودرجة إنسانيتها بلا مقارنة مع الذكر؛ لا نزال نحن في شرقنا المسكين ندور في دوائر الخوف♦ والعنف. الخوف الذكوري من فقدان “العبدات” الطبيعيات اللاتي وهبهتهن التفسيرات الاجتماعية والدينية للذكور، والعنف الأبوي للمحافظة على نظام العبودية الطبيعي هذا ولتقوية قوائمه.

لا ينطوي الحديث على مبالغة! أن تختبر الحياة كلها وأنت مكبل إلى ذكورها، ألا يحق لك حق سوى بإقرار وصي ذكر عليك، أن تعمل ذات العمل وتقبض أجرا أقل، أن تُربط في ساقية خدمة منزلية لا ترقية فيها ولا تقاعد في نهايتها، أن يحق لشريكك أن يضربك أو أن يكرهك على علاقة جسدية خاصة، أن تكون عرضة للعيون والأيادي والألسنة باستمرار؛ وأن تأتي أنظمة عاداتية وتقاليدية ودينية لتبرر وتشرعن كل ذلك!

أن تعيش كل ذلك، يوما بعد يوم، سنة بعد سنة، عقدا بعد عقد، قرنا بعد قرن، حتى يتحول المرار إلى حالة بيولوجية تتوارثها النساء جيلا بعد جيل. أن تحيا كل ذلك وأكثر من ذلك وأعنف من ذلك وأبشع من ذلك من طفولتك إلى طعونتك، ساعتها لربما يصبح لديك شرعية الحديث عن المبالغة. فجر النضال النسوي وصل إشراقة شمس كاملة على عتبات القرن الواحد والعشرين، وعلى الرغم من أن الخروج إلى النور صعب على من اعتدن الظلام لسنوات، إلا أن هذا زمننا وهي فرصتنا، حان وقت الخروج للنور مهما كان الثمن.

♦ “دوائر الخوف” عنوان لكتاب رائع حول موضوع النسوية في مجتمعاتنا للدكتور نصر حامد أبو زيد.

 

الحُرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق