بكر عويضة
الأرجح أن الفنان النرويجي العملاق إدفارت مونك عندما أطلق العنان للخيال كي يرسمَ صرخة ألمٍ، قبل زهاء مائة وعشرين عاماً (1893)، لم يدرِ أن انتشار «الصرخة» سوف يسبح بعيداً في الفضاء، فيعبر آفاق الكون كله، ليس بوسع عسكر حدود، أو حُرَّاس معابر، إيقاف صدى دويّ صمتها الناطق بكل اللغات، بل إن تاريخ الفن العالمي سيفسح المكان اللائق بها لتصبح اللوحة الثانية في الانتشار عالمياً، بعد «الموناليزا»، تُحفة الإيطالي المبدع ليوناردو دافنشي الخالدة تاريخياً هي أيضاً. هل من سبب دعاني لاستحضار رائعة إدفارت مونك (مونش، وفق قراءة ثانية)؟ نعم، إنما أرجع للتفصيل لاحقاً.
مساء يوم الجمعة الماضي، كنت أتناول العشاء صحبة صديقين لكلٍ منهما باع معتبر في مجال تخصص العمل الذي شق به طريق حياته، ثم إن كليهما يتابع آخر التطورات على نحو أوسع مما أستطيع وأفضل، سواء عبر فضائيات عدة تنتشر في أركان الأرض – وذلك على النقيض مني، إذ لستُ أتابع سوى قنوات محدودة بغير العربية – أو من خلال جهاز «موبايل» ذكي – وهو ما أرفض التعامل معه – يوفر تطبيقات عدة، أشهرها «واتسآب»، تحمل أحدث أنباء تسارع الأحداث، كما تمتلئ بقفشات المعلقين والمُعلقات من خلال فيديوهات فيها ما يثير ضحك كأنه البكاء، وفيها ما يضحك فعلاً، سواء إزاء ما يبدو غباء بعض الساسة، أو تكرار أكثرهم لصراخ يبدو أنهم أدمنوه حتى الثمالة. في ذلك العشاء فوجئت بأحد الصديقين يقول، وقد تهلل وجهه بالاستبشار، إن حسن نصر الله أرعب إسرائيل ذلك اليوم، إذ هدَّد بأنه قادر على احتلال منطقة الجليل في شمال إسرائيل متى شاء وأنَّى أراد. كدت أقول ولماذا لا يحتله (الجليل) فعلاً؟ لكني صمت لأنني أعرف الجواب مسبقاً: أتريد أن تفرض عليه توقيت المعركة؟
ثم فوجئت بالصديق الآخر يخاطبنا: تصوروا أن تحرير فلسطين اليوم، لو تم، لن يكون الفضل فيه للعرب، بل لإيران؟ في المقابل عاجله الصديق المستبشر بما ورد في صراخ نصر الله عبر قناة «المنار» برد جاء فيه أن مواقع إنترنتية محسوبة على الشيعة تؤكد أن الجيش المصري سيكون السبّاق في تحرير القدس. النهار التالي، تبيّن لي، بعد بحث إنترنتي، أن الرجل لم يقل إنه جاهز لاحتلال منطقة الجليل، إنما على النقيض من ذلك، أكد أنه لا يتحدث عن حرب برية، بل عن قدرة صواريخ حزبه على ضرب أهداف في معظم أنحاء إسرائيل. إذ ذاك، تذكرت أنني في الرابع والعشرين من مايو (أيار) عام 2000. كنتُ أقضي إجازتي السنوية زائراً الأهل في قطاع غزة، عندما فاجأ إيهود باراك، رئيس حكومة تل أبيب زمن ذاك، العالم بإعلان انسحابٍ أحادي من جنوب لبنان. يومها خاطب حسن نصر الله الفلسطينيين مباشرة بما مضمونه أن هبوا منتفضين، فبوسعكم تحرير كل فلسطين. صفق الشبان المتحلقون ساعتها في البيت حول التلفاز، وهتفوا مرحبين بما سمعوا. سارع الجنرال آرييل شارون فقدم خدمة لذلك الصراخ، عندما أقدم على اقتحام باحة حرم الأقصى الشريف، فكانت انتفاضة 2000. منذ ذلك اليوم أخذ حال فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة يتراجع من سيئ إلى أسوأ. ها قد مرّت تسع عشرة سنة، فما هو اليوم وضع معظم شبان وشابات ذلك الوقت؟ الشريحة الأغلب منهم ومنهن بلا عمل، وتقريباً بلا أمل في مستقبل يأتي بالأفضل.
محترفو الهتاف الصارخ بقرب محو وجود إسرائيل بممحاة صواريخ لن يخسروا شيئا. الخاسرون هم الموهومون بتصديق جدوى صراخ لا يصنع التاريخ. كما غيري من أترابي، سمعت في شبابي زئير صواريخ «القاهر» و«الظافر»، ثم أتاني صراخ غاشية الوعيد الصدّامي على مسمع من الناس أجمعين بصواريخ تحمل رؤوس «كيماوي مزدوج» تستطيع حرق نصف إسرائيل، لكن بطل «القادسية» انتهى، بعد كارثة غزوه الكويت مختبئاً في حفرة انتِشل منها ماداً لسانه لضابط أميركي يأخذ عينة «DNA»، في مشهد أوجع، وسيظل يوجع، كل عربي، حتى الكارهين طغيان صدام حسين. ترى، أيكفي التأمل في «صرخة» إدفارت مونك، علّها تعبّر، إزاء تناقضات هذه الأيام، عن ذرة من جبال آلام تستوطن قلوب كل العرب والمسلمين، غير المنتمين لغير فطرتهم، التي عليها فُطروا في حب فلسطين، إذ يرون كيف يمد المستوطن الإسرائيلي رجلاً في ضواحي القدس، وثانية على مرتفعات الجولان؟ أترك الجواب لكم، ولكن.
مساء يوم الجمعة الماضي، كنت أتناول العشاء صحبة صديقين لكلٍ منهما باع معتبر في مجال تخصص العمل الذي شق به طريق حياته، ثم إن كليهما يتابع آخر التطورات على نحو أوسع مما أستطيع وأفضل، سواء عبر فضائيات عدة تنتشر في أركان الأرض – وذلك على النقيض مني، إذ لستُ أتابع سوى قنوات محدودة بغير العربية – أو من خلال جهاز «موبايل» ذكي – وهو ما أرفض التعامل معه – يوفر تطبيقات عدة، أشهرها «واتسآب»، تحمل أحدث أنباء تسارع الأحداث، كما تمتلئ بقفشات المعلقين والمُعلقات من خلال فيديوهات فيها ما يثير ضحك كأنه البكاء، وفيها ما يضحك فعلاً، سواء إزاء ما يبدو غباء بعض الساسة، أو تكرار أكثرهم لصراخ يبدو أنهم أدمنوه حتى الثمالة. في ذلك العشاء فوجئت بأحد الصديقين يقول، وقد تهلل وجهه بالاستبشار، إن حسن نصر الله أرعب إسرائيل ذلك اليوم، إذ هدَّد بأنه قادر على احتلال منطقة الجليل في شمال إسرائيل متى شاء وأنَّى أراد. كدت أقول ولماذا لا يحتله (الجليل) فعلاً؟ لكني صمت لأنني أعرف الجواب مسبقاً: أتريد أن تفرض عليه توقيت المعركة؟
ثم فوجئت بالصديق الآخر يخاطبنا: تصوروا أن تحرير فلسطين اليوم، لو تم، لن يكون الفضل فيه للعرب، بل لإيران؟ في المقابل عاجله الصديق المستبشر بما ورد في صراخ نصر الله عبر قناة «المنار» برد جاء فيه أن مواقع إنترنتية محسوبة على الشيعة تؤكد أن الجيش المصري سيكون السبّاق في تحرير القدس. النهار التالي، تبيّن لي، بعد بحث إنترنتي، أن الرجل لم يقل إنه جاهز لاحتلال منطقة الجليل، إنما على النقيض من ذلك، أكد أنه لا يتحدث عن حرب برية، بل عن قدرة صواريخ حزبه على ضرب أهداف في معظم أنحاء إسرائيل. إذ ذاك، تذكرت أنني في الرابع والعشرين من مايو (أيار) عام 2000. كنتُ أقضي إجازتي السنوية زائراً الأهل في قطاع غزة، عندما فاجأ إيهود باراك، رئيس حكومة تل أبيب زمن ذاك، العالم بإعلان انسحابٍ أحادي من جنوب لبنان. يومها خاطب حسن نصر الله الفلسطينيين مباشرة بما مضمونه أن هبوا منتفضين، فبوسعكم تحرير كل فلسطين. صفق الشبان المتحلقون ساعتها في البيت حول التلفاز، وهتفوا مرحبين بما سمعوا. سارع الجنرال آرييل شارون فقدم خدمة لذلك الصراخ، عندما أقدم على اقتحام باحة حرم الأقصى الشريف، فكانت انتفاضة 2000. منذ ذلك اليوم أخذ حال فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة يتراجع من سيئ إلى أسوأ. ها قد مرّت تسع عشرة سنة، فما هو اليوم وضع معظم شبان وشابات ذلك الوقت؟ الشريحة الأغلب منهم ومنهن بلا عمل، وتقريباً بلا أمل في مستقبل يأتي بالأفضل.
محترفو الهتاف الصارخ بقرب محو وجود إسرائيل بممحاة صواريخ لن يخسروا شيئا. الخاسرون هم الموهومون بتصديق جدوى صراخ لا يصنع التاريخ. كما غيري من أترابي، سمعت في شبابي زئير صواريخ «القاهر» و«الظافر»، ثم أتاني صراخ غاشية الوعيد الصدّامي على مسمع من الناس أجمعين بصواريخ تحمل رؤوس «كيماوي مزدوج» تستطيع حرق نصف إسرائيل، لكن بطل «القادسية» انتهى، بعد كارثة غزوه الكويت مختبئاً في حفرة انتِشل منها ماداً لسانه لضابط أميركي يأخذ عينة «DNA»، في مشهد أوجع، وسيظل يوجع، كل عربي، حتى الكارهين طغيان صدام حسين. ترى، أيكفي التأمل في «صرخة» إدفارت مونك، علّها تعبّر، إزاء تناقضات هذه الأيام، عن ذرة من جبال آلام تستوطن قلوب كل العرب والمسلمين، غير المنتمين لغير فطرتهم، التي عليها فُطروا في حب فلسطين، إذ يرون كيف يمد المستوطن الإسرائيلي رجلاً في ضواحي القدس، وثانية على مرتفعات الجولان؟ أترك الجواب لكم، ولكن.