أحمد المصري
أيا كان ما تذهب إليه التحليلات والتكهنات فإننا كصحفيين لا نملك إلا أن نتساءل وبكل قلق مشروع على مصير السيد جمال خاشقجي، فهو زميل مهنة، وصاحب رأي (اتفقنا أو اختلفنا معه).
لا نساوم على مفهوم الحريات العامة، ولا نفاوض على مكتسباتنا كإعلاميين طوال عقود من النضال على مبدأ حرية التعبير، ومع كل هذا فإننا لا نمنع أنفسنا من طرح تساؤلات عديدة في واحدة من أغرب قضايا الاختفاء تعقيدا.
التهمة جاهزة ومعلبة وملائمة نحو المملكة العربية السعودية، وتبرير المسوغات سهل جدا سواء من ناحية السوابق التاريخية أو التفسيرات السياسية، والأخيرة اكثر سهولة لكنها أيضا قد تكون طريقا في اتجاهين.
شخصيا، لا أدعي معرفة السيد جمال خاشقجي، لكن بيني وبينه شبكة هائلة من الأصدقاء المشتركين والمقربين، وكلهم بلا استثناء كان دوما يؤكد ولاء الخاشقجي المطلق لبلده، وكرهه الشديد لتسمية “معارض سعودي”، والرجل كان في مهنته الصحفية نافذا إلى مصادر معلوماتية حتى لامس اللعبة الاستخبارية، وتلك مساحات ساخنة على تماس دائم مع العمل الصحفي واللعب فيها محفوف دوما بالمخاطر ولا يتقنه إلا المحترفون، والانزلاق فيها يخرج الصحفي من دائرة مهنته إلى وظيفة أخرى اكثر خطورة، وخاشقجي تعدى كل خطوط التماس تلك… حتى توغل في المساحات الساخنة حد التيه، وتلك مساحات غامضة التفاصيل، اللاعبون فيها كثر، واللعب فيها دوما في العتمة.
اتهام السعودية سهل، خارج حدود التماس وتلك المساحات الغامضة والملغومة، لكن حين نسرح قليلا في المعطيات وما تيسر لنا معرفته من خلال خبرتنا المهنية، نتساءل عن مصلحة السعودية في ما تم زعمه من اتهامات باغتيال وتصفية الخاشقجي، وهو لم يكن أكثر من كاتب له انتقاداته القوية وفي منصات عالمية، لكنه كان وعلى الدوام يرفض تسميته بالمعارض، رغم محاولاته الحثيثة لتوفير أسس تقارب سعودي ـ تركي (وتلك مهمة خارج مساحات المهنة بلا شك)، وتعاطفه المستمر مع تيار الإخوان المسلمين (وهذه مساحة تتقاطع في العتمة مع التنظيم ومموليه).
لو كان للسعودية منهجية الاغتيال مع معارضيها لكان اسامة بن لادن مثلا لا حصرا الأوفر حظا بالتنكيل المباشر أو أقربائه في المملكة وهو الذي استهدف بالدم العائلة الحاكمة السعودية ولسنوات طويلة.
ألم يكن أسهل وأوفر كلفة للسعودية احتواؤه وهذا متاح حسب تسلسل المراسلات بينه وبين المسؤولين في المملكة، بل تشير المعطيات إلى ان الرجل كان قريبا من العودة وقد سئم الغربة في الولايات المتحدة.
ألم يكن للرجل علاقاته المتشعبة (خلف خطوط التماس في تلك المنطقة الساخنة والملغومة)، وهي واضحة المعالم بين أنقرة والدوحة؟
لا ندافع عن السعودية وهناك سيل من الادلة التي تنهمر يوما بعد يوم من قبل تركيا تدين المملكة اكثر واكثر، لكن من جهة أخرى، فإن تلك المنطقة الحرام والملغومة خلف خطوط التماس التي ذكرناها فيها من الغموض ما يكفي لصنع ألف فيلم هوليودي فائق الجودة.
انا عشت في السعودية وعائلتي لا تزال هناك منذ نصف قرن، وانتقدت المملكة في كثير من منعطفات حياتي الصحفية والمهنية، ولم يتعرض أي من أهلي المقيمين هناك لأي سوء يذكر، وهذا يجعلني أتساءل عن حجم الجريمة التي تجعل من خاشقجي هدفا مطلوبا بهذه القسوة (لو افترضنا صحة معطيات الدوحة وانقرة).
في تلك المنطقة الملغومة، خلف خطوط التماس مع مهنة المتاعب، لاعبون كثر، لا احد يراهم أو يعرفهم، هوياتهم مجهولة، وأجنداتهم كثيرة، وخاشقجي الآن ليس أكثر من حاصل جمع وطرح كل المعادلات في كل أزمات الإقليم.
وختاما، لا زلت اتمنى بصدق، أن يخرج السيد جمال خاشقجي إلى الملأ حيا معافى ليقلب الطاولة، والأهم ان يكون سالما بلا أذى.