تحقيقات
الغرافيتي لتخليد ذكرى “شهداء” الثورة في السودان
ـ الخرطوم ـ قتل المتظاهر السوداني وليد عبد الرحمن خلال تظاهرة تلت عملية فض اعتصام الخرطوم الدامية قبل شهر، لكنّ رسم غرافيتي ملونا كبيرا لوجهه المبتسم خطّها نشطاء على جدران منزله، تعطي والدته المكلومة شعورا بأنه “لا يزال حيا”.
وتقول الأم السبعينية مياسة صالح عمر “الغرافيتي تجعله كأنه حي بيننا. أشعر أنني أراه حين أتأمل الرسم وحين يأتي المتظاهرون لمشاهدة الغرافيتي”.
وتتابع الأم التي وضعت وشاحا حول رقبتها يحمل صورة ابنها ومكتوب عليه “العدالة أولا”، “أشعر بالاطمئنان لوجود وجهه بهذا الحجم حولنا وأشعر بالفخر أنني أم شهيد”.
وقرّرت مصممة الرسوم أصيل دياب مع فريق من النشطاء رسم نحو 30 وجها من وجوه ضحايا الثورة السودانية على جدران منازل أسرهم. وبدأت في شباط/فبراير الفائت بتطبيق فكرتها، مستعينة ببخاخات وألوان وبعد أن أخذت موافقة العائلات.
ويرابط وجه عبد الرحمن الباسم بنظارته الطبية ولحيته الخفيفة على جدار طلي باللون الأخضر في مدخل البيت البسيط في حي بحري في شمال الخرطوم.
وتقول والدته بتأثر شديد “أتألم وأبكي كل يوم، لكنني سعيدة للغاية بالغرافيتي”.
ومنذ اندلاع الاحتجاجات ضد الرئيس السابق عمر البشير في 19 كانون الأول/ديسمبر الفائت، قتل أكثر من 246 متظاهرا في أرجاء البلاد، بحسب لجنة أطباء السودان المركزية، بينهم 127 شخصا في الثالث من حزيران/يونيو خلال عملية دامية لفض اعتصام أمام مقر قيادة القوات المسلحة في الخرطوم.
ولا يزال المحتجون السودانيون يهتفون لدى خروجهم في تظاهرات بين الحين والآخر للمطالبة بتسليم سلطة مدنية الحكم في البلاد، “شهداؤنا لم يموتوا … أحياء مع الثوار”.
وتقول أصيل دياب البالغة 29 عاما لوكالة فرانس برس “الفكرة هي أن نخلّد الذكرى في البيت نفسه وأن يفتخر الأهالي بوجود شهيد ضحّى بحياته من أجل السودان”.
وتتابع الشابة التي تركت العمل في قناة “الجزيرة” القطرية واحترفت الرسم على الجدران في 2014 “الغرافيتي تجعل الشهداء أحياء في وسط المجتمع وتجبر الناس على تذكرهم سواء كانوا مع الثورة أو ضدها”.
“حافز للمشاركة”
في السودان، كان فن الغرافيتي يُمارس في الخفاء لسنوات طويلة في ظل رقابة مشددة من القوى الأمنية التي كانت تنظر إليه كرمز للمعارضة ضد النظام القائم أو كشكل من أشكال التخريب.
غير أن الوضع تغيّر بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية على حكم البشير الذي أطاحه الجيش في 11 نيسان/أبريل الفائت.
في حي بحري الذي كان مسرحا لتظاهرات يومية منذ اندلاع الاحتجاجات، تنتشر رسوم الغرافيتي على جدران الطرق والمنازل، وكذلك في مناطق أخرى من العاصمة.
وتقول دياب التي تقيم في الدوحة مع عائلتها منذ سنين، لكنها تزور بلدها الأم بانتظام إنّ رسم “الوجه الواحد يكلّف نحو 625 دولارا بسبب جودة الألوان والأدوات التي أستخدمها”، لكنّها تؤكد أن “الشهداء خرجوا من أجلنا وماتوا من أجلنا وهذا أقل شيء يمكن أن نقدمه لهم”.
ورُسمت ملامح المتظاهر محمد مطر على حائط ناد رياضي صغير في ساحة ترابية كبيرة تتوسط ثلاث مدارس ومسجدا وعلى مقربة من منزله، على خلفية زرقاء. ويبدو وجه مطر الذي قتل خلال عملية فض الاعتصام، قاسيا، في الرسم.
ويقول أحد أبناء الحي مجاهد الصادق “هذا الغرافيتي يعطيني حافزا للمشاركة في الاحتجاجات لتحقيق مطالب من ماتوا من أجلنا”.
ويتابع الشاب الفارع الطول الذي ارتدى قميصا رياضيا “لم أكن اعرف مطر لكنّنا جميعا الآن نعرفه”.
وعاد مطر الذي كان طالبا في بريطانيا إلى السودان لزيارة أسرته، وكان قد أتّم عامه السادس والعشرين حين قرر البقاء في موقع الاعتصام ليقتل بعدها بساعات.
وأثار مقتله حملة تضامن واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتقول إيثار جبارة التي تشارك في مبادرة الغرافيتي “قررنا أن نرسم وجهه هنا لأن هذه منطقة تجمع رئيسية والحركة فيها كبيرة. سيراها أكبر عدد ممكن من الناس هنا”.
وتضيف أنّ السلطات “معهم السلاح أما سلاحنا نحن فهو الفن”.
“تجربة خطيرة”
ولا تقتصر الرسوم على ضحايا الثورة الجارية، بل تتعداها لتشمل ضحايا الانتفاضة التي أخمدتها السلطات بالقوة في أيلول/سبتمبر 2013.
واندلعت احتجاجات في حينه ضد البشير بعد خفض الدعم على المحروقات. وقالت منظمات حقوقية إنّ العشرات قتلوا في مواجهات مع قوات الأمن.
ورسمت الفنانة دياب وجه بابكر أنور الذي قتل في تلك الأحداث على جدار منزل عائلته، وكتبت بالأزرق “لن ننساك يا بكور”، في إشارة لاسم كنيته.
وتقول عدوية محمد، والدة بابكر أنور، إنّ الغرافيتي “يشعرني أنه معي طوال اليوم، كأنه جالس أمامي”.
وتتابع الأم التي اتشحت بالسواد “سعيدة أن السودان لا يزال يذكر سيرته حتى الآن”.
أما ابن خالته زين العابدين فيقول “هذه الرسومات ذكرى جميلة تشعرني بأنه لا يزال حيا أمامي شخصيا ويمكنني أن أتحدث معه”، قبل ان يذرف دموعا.
ولم يكن تنفيذ هذه الرسومات سهلا بسبب انتشار قوات الدعم السريع التي طاردت فريق العمل في الشوارع، وفق ما تقول دياب.
وتضيف “التجربة كانت خطيرة لكنّها كانت تستحق المجازفة. أريد أن أخلد ذكرى الشهداء بالطريقة التي أعرفها… الغرافيتي”. (أ ف ب)