الحبيب الأسود
الأجواء الانتخابية التي انطلقت في تونس، تبدو كفيلم سينمائي طويل، يراه البعض من فئة الكوميديا، والبعض الآخر ينظر إليه كفيلم رعب أو مغامرات، أو ربما من الدراما الاجتماعية السياسية، المهم أنه يحمل جانبا من التشويق، وجانبا آخر من الارتباكات في تحديد أحداث السيناريو وسير الأحداث، نتيجة تعدد وتنوع المؤلفين والمخرجين بشكل يخلو في حالات كثيرة، بل في أكثر الأحيان، من التنسيق في ما بينهم.
الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها التي ستنتظم يوم 15 سبتمبر القادم، ستكون امتحانا صعبا للتونسيين، هناك أطراف عدة تتصارع في سباق محموم نحو كرسي الرئاسة بقصر قرطاج، لكن الأمتار النهائية قد تنحصر في أربعة أشخاص ثم في شخصين ليتم الاختيار النهائي على رئيس جديد للبلاد.
من البدء، علينا أن ندرك أن هناك مرشحين يمتلكون كتلا ثابتة من الناخبين، أبرزهم نبيل القروي، الإعلامي المتخصص في صناعة الإعلانات بشركاته المعروفة في هذا المجال، ومدير التلفزيون الخاص “نسمة” الذي عرف كيف يصنع لنفسه حالة سياسية خاصة اعتمادا على العمل الخيري من خلال جمعيته “خليل تونس”، والذي قلب موازين اللعبة عندما تحوّل من صانع للسياسيين إلى سياسي ينافس على حكم البلاد، ويملك رصيدا شعبيا من فئات طالما تعرضت للحيف الاقتصادي والتحقير الاجتماعي وللتهميش الإعلامي والثقافي والعزلة الحضارية، وهي الوجه الآخر لتونس بكل ما تمثله من خيبات الدولة الوطنية في بعض مساراتها التي لم تكن منصفة لنسبة مهمة من أبنائها.
من بين أصحاب الكتل الانتخابية الثابتة كذلك عبير موسي زعيمة الحزب الدستوري الحر، التي تسجل حضورا لافتا بين التونسيين المدفوعين بالحنين إلى دولتهم التي افتقدوا الكثير من ملامحها منذ عام 2011، والتي لا تخفي انتقادها الحاد للثورة والربيع العربي والإسلام السياسي والتحالف القطري التركي الإخواني ولدستور 2014 وللنظام السياسي القائم حاليا، وهي بذلك تعبّر عن جانب مهم من الشعب، تعرض للتهميش والتحقير في زحمة انتشار الشعارات الثورية الراديكالية والإخوانية المتشددة التي حاول من خلالها أصحابها إلحاق العدمية والخراب بدولة الاستقلال، واتهام الحزب الذي قاد معركة التحرير ثم معركة بناء دولة الاستقلال بأنه حزب فساد واستبداد، في تعميم كان الهدف منه إقصاء منافس سياسي ضارب في جذور البلاد منذ العام 1920.
هناك كذلك منصف المرزوقي الرئيس الأسبق، الذي يحظى بدعم التيار الربيعي، أي المدافع عن الربيع العربي، والمرتبط سياسيا بالمحور القطري التركي الإخواني، والذي يبدو أقرب إلى عقائدية الإسلام السياسي المتشددة التي تخشى حركة النهضة التصريح بها علنا، وهو المعروف بتحامله الدائم على التحالف العربي المناهض للإرهاب، وبشكواه الدائمة مما يصفها بالثورة المضادة، يبكي محمد مرسي على شاشة “الجزيرة” ويعلن دعمه اللامحدود لميليشيات طرابلس ومصراتة، ولا يترك فرصة تمر دون التهجم على الإمارات والسعودية، مقابل تمجيد قطر وتركيا، ولذلك يجد مساندة من قواعد الإخوان في تونس التي صوتت له في انتخابات 2014 عندما كانت قيادة النهضة تزعم أنها تدعم الباجي قائد السبسي.
المرشح الرابع الذي يمتلك كتلة انتخابية هو حمة الهمامي زعيم حزب العمال والمتحدث باسم ائتلاف الجبهة الشعبية، رغم أن تلك الكتلة تصدعت بعض الشيء بسبب الانشقاق داخل الائتلاف اليساري المعارض الأبرز في البلاد، وترشح منجي الرحوي عن حزب اختار أن يحمل اسم الائتلاف، ولكن مهما يكن من أمر، فإن اليسار التونسي لا يزال غير مهيأ لتحقيق حضور فاعل في الأوساط الشعبية يؤهله للفوز في أي انتخابات، ولا يزال حجمه مرتبطا بفئات وجهات دون غيرها، وبشعارات وتموقعات فكرية وسياسية لا تؤهله للمنافسة الحقيقية على كرسي الرئاسة.
نأتي إلى حزب حركة النهضة، الذي يمتلك في رصيده مئة ألف منخرط فعلي، وحوالي 400 ألف مناصر جلهم من المرتبطين بالحركة وقيادتها بحسابات جهوية ومناطقية وأسرية وبحسابات مصلحية، وقد تأكد هذا الرقم في الانتخابات البلدية لعام 2018، وهو لا يكفي للوصول برئيس إلى قصر قرطاج. لذلك رفض راشد الغنوشي والمقربون منه فكرة ترشيح أحد القياديين للسباق الرئاسي، خصوصا وأن لديه معطيات تشير إلى أن من يتنافسون على الطرف المقابل قد يجتمعون ويتحدون في لحظة فارقة للإطاحة بأي مرشح إخواني.
لكن ما حدث بالفعل هو انقلاب مجلس شورى الحركة على الغنوشي بشكل غير مسبوق، والإطاحة بخياراته، والدفع به مجبرا لترشيح أحد قياديي الحركة وهو عبدالفتاح مورو الذي يتولى حاليا منصب رئيس البرلمان بالإنابة، والذي يبدو أن الاختيار عليه وقع لجملة أسباب منها شخصيته المقبولة لدى نسبة من التونسيين وروحه المرحة وقدرته على إدارة الحوار، ولكن الأهم من ذلك انتماؤه المناطقي، فهو ابن حاضرة العاصمة من أسرة ذات جذور أندلسية، أي أن ترشيحه لا يخاطب فقط العقائديين من الإخوان ولكن الأسر العاصمية التي قد تتعاطف معه، رغم أنها لم تصوت له عندما ترشح ضمن قائمة مستقلة لانتخابات المجلس التأسيسي عام 2011.
حركة النهضة ستجد نفسها في محكّ حقيقي في الانتخابات الرئاسية، وسيكون من الصعب على مورو العبور إلى الدور الثاني، بعد أن يكتشف أن جانبا من الخزان الانتخابي لحركة النهضة سيصوّت لغيره، وأن ترشيحه كان مصيدة ربما مقصودة وربما غير مقصودة للجيل المؤسس، وهزيمة مورو سيكون لها تأثير على وضعية الغنوشي نفسه، وهو المترشح للانتخابات البرلمانية عن الدائرة الثانية بالعاصمة، مدفوعا بأمل أن يرأس البرلمان خلال الفترة القادمة.
مهدي جمعة رئيس حكومة الكفاءات الوطنية في 2014 وزعيم حزب البديل، يظهر بشكل مختلف، وهو يمتلك كاريزما كان من الأفضل لو كرسها للانتخابات البرلمانية ثم ادخرها لانتخابات 2024، فرغم أنه بدأ يتموقع في المشهد السياسي من خلال حزبه إلا أن ظروف وطبيعة وخصوصيات رئاسيات 15 سبتمبر محمولة على حسابات أخرى كان يجدر به أن يدرسها جيدا.
هناك في الصورة عبدالكريم الزبيدي وزير الدفاع الوطني، الذي سيترشح للرئاسيات مدعوما بحركة نداء تونس وبعض الأحزاب الأخرى، والذي قد يستفيد من حالة هبّة وطنية لتحصين الدولة من الوقوع في حبائل المغامرين، وسيكون مسنودا من جانب مهم من التونسيين الذين ينظرون إليه كرجل هادئ وزاهد في الحياة، وابن مؤسسات الدولة، وغير متحزّب، ولديه علاقات دولية متوازنة، وغير محسوب على أي محور في الداخل والخارج. وليس مستبعدا أن تقفز النهضة بكل قوتها لتعلن أنها تدعم الزبيدي لكسب نقاط في الجولة القادمة، لكن المؤكد أن خزانها الانتخابي لن يصوت لفائدته.
المشهد قد يبدو معقدا، ولكن السباق الرئاسي المنتظر لن يخلو من تأثيرات الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الذي يبدو أن نسبة مهمة من أبناء شعبه لم تكتشفه إلا بعد وفاته، ولن يخلو كذلك من التأثيرات الإقليمية وخاصة في ليبيا والجزائر، ولا من نظرة التونسيين إلى الدولة في حد ذاتها، وهي تواجه امتحانا حقيقيا في ظل حالة المخاض السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فالمواطن عندما يخسر رهاناته على التنمية والرفاه والرقي يعود ليستند على وتد الخيمة وعماد الدولة بحثا عن الأمان.
الثابت أن السباق نحو قرطاج سيكون مؤثرا على السباق نحو باردو، فالتونسيون عموما ميالون إلى المنتصر، ونتائج الرئاسيات ستلقي بظلالها على نتائج الانتخابات البرلمانية، لذلك سيكون أمام بعض المرشحين للرئاسيات أن يستفيدوا من الحملات الانتخابية التي سينظمونها لخدمة رهانهم التشريعي، بينما سيسقط آخرون بالضربة القاضية. المسألة هنا مرتبطة بالذكاء في الخطاب والاستقطاب، وبالقدرة على الاستفادة من اللحظة، خصوصا وأن من فشلوا سابقا في الحكم سيدفعون الثمن غاليا هذه المرة، لتنتفع بذلك وجوه أكثر جدية ومصداقية أو حتى أكثر غموضا. الفيلم الانتخابي الطويل في تونس يدفع بأبطال كثر إلى صدارة المشاهد، لكن السؤال: من الذي سيتقدم ليصبح البطل الأبرز، ومن سيتراجع إلى صفوف الكومبارس؟