عبدالوهاب بدرخان
الواقع الجديد في السودان يفترض حسن الظنّ بعسكرييه، فمساهمتهم في التغيير كانت أساسية منذ فجر الحادي عشر من نيسان (أبريل) عندما أبلغوا كبيرهم عمر البشير أن عليه التنحّي، ففعل. كانت الشهور الأربعة، بعد اندلاع الانتفاضة في 19 كانون الأول (ديسمبر) 2018، كافية لإقناعهم، بإسلامييهم ومسلميهم، بأن المرحلة التي دامت ثلاثين عاماً قد انتهت. كانت هناك أسباب كثيرة لإنهائها قبل ذلك: حروب الداخلية وتقسيم لجغرافية البلاد وإفلاس سياسي للحكم وإفلاس اقتصادي وإنهيار للعملة… غير أن العجز عن توفير الخبز كان المؤشّر الحاسم لفشلٍ نهائي لا يمكن القبضة الحديد أن تطمسه، ولا لـ “مؤامرات” على الأمن القومي وهوية السودان أن تموّهه. فالضائقة المعيشية ألمّت بالجميع، والخبز لم يكن متوفّراً لإسلاميي النظام ولا لسائر مسلمي البلد. لا شك أن تجربة نقل السلطة من العسكريين الى المدنيين ستكون سابقة عربية. والأمل كبير في أن تتمّ بلا مفاجآتٍ سيئة.
أكثر من حسن الظن، يمكن إبداء الإعجاب ومن دون تحفّظ بأداء الاتحاد الأفريقي، إذ جاء تدخّله في اللحظة المناسبة أولاً بحضور رئيس الوزراء الاثيوبي شخصياً، ثم بمبعوثَين أثيوبي وأفريقي، ولولاه لما وصلت الأمور الى خواتيمها الواعدة بالتوقيع على الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية. كان لافتاً في هذا التدخّل أنه مقبولٌ من مختلف الأطراف، يدعمه أعضاء الاتحاد جميعاً استناداً الى سلميّة الحراك الشعبي السوداني ومشروعيته، ويدعمه للسبب ذاته من المجتمع الدولي و”الترويكا” الدولية (الولايات المتحدة وبريطانيا والنروج) المعنية بالشأن السوداني، ثم أنه تسلّحٌ بقرار أفريقي واضح يساند مطالب الحراك الشعبي ويلزم المجلس العسكري بالانتقال السياسي أو تُجمّد عضوية السودان وتُفرض عليه عقوبات… كل ذلك لا يمكن تخيّله لدور تؤدّيه الجامعة العربية، كتكتّل ولد قبل عقدين من منظمة الوحدة الأفريقية التي صارت لاحقاً الاتحاد الأفريقي، لكن الدول العربية المتمترسة وراء مفهوم السيادة لم تتفق على تطوير الجامعة ولم تمكّنها/ بل أصبح واضحاً أنها لا تريدها أن تضطلع بدور حيوي سواء في شؤون داخلية أو قومية. ومنذ أصبح تعامل الاتحاد الافريقي صارماً مع الانقلابات العسكرية صارت الأنظمة تتحسّب لمواقفه، ولم يرَ السودان كبلد عربي أفريقي مفرّاً من الإنصات للإنذارات، كما أن سيادته لم تُنتهك بالمساعدة التي وفّرها الأفارقة. لم تحظَ ليبيا بمثل هذه الفرصة، فهي تحت سيطرة ميليشيات وليست دولة بعد.
قدّم الأفارقة وساطة صالحة لكن دلالات المسار الداخلي كانت فائقة الأهمية، سواء في ثبات “قوى اعلان الحرية والتغيير” على أهدافها وسلميّة حراكها/ ثورتها، أو في تطوّر العقلية السياسية لدى العسكريين. فبعد خلع رأس النظام السابق لم تكن خلافته بالمهمة السهلة، خصوصاً أن جميع أعضاء المجلس العسكري كانوا من صنعه وغير مهيّئين حتى لمجرد التفكير في شأن كهذا، إذ تآلفوا مع تلقّي أوامره وتنفيذها ومع أن الحكومة ليست سوى جهاز ممتثل لإرادته، ولإرادتهم من خلاله. لكن، كان على العسكريين أن يسارعوا الى بلورة خياراتهم ولم يجدوها كثيرة، فإمّا أن يحكموا بداعي حتمية الواجب الوطني وإعادة توطيد الأمن والاستقرار، وإمّا أن يتوجّهوا الى التغيير إستجابةً لدعوات الاعتصام الشعبي الذي حاصر قيادتهم العامة. ينبغي التذكير بأنهم، كعسكريين، تبنوا طيلة ثلاثة عقود مفهوماً سياسياً مفاده أن المدنيين بأحزابهم وتجمعاتهم مفطورون على الصراعات في ما بينهم ولا يحسنون سواها، وأن الحكم العسكري هو الصيغة المثلى لضمان الاستقرار. كان البشير بنى هذا النظام معتمداً على هياكل حزبية ودينية وجدها شبه جاهزة غداة انقلابه، وعندما اختلف مع معلمه حسن الترابي وانشقّ عنه ما لبث أن صنّع أطراً حزبية شكلية وحواضن إسلاموية يقدّمها على أنها قاعدته الشعبية ويضخّ أعضاءها في جسم الدولة ويمسك بخيوطها ويحرّكها بحسب أهوائه والظروف.
في الشهور الأربعة التي تلت خلع رأس النظام السابق مرّ العسكريون بمخاضٍ صعب متنوّع الأهداف، إذ كان على مجلسهم أن يوحّد رؤيته بالنسبة الى المراحل التالية، وكان عدد من أعضائه أفصح علناً عن انحيازه الى الحراك الشعبي فيما ساعد الصمت المهني والتقيّة الايديولوجية عدداً آخر من الأعضاء على كتم ميله الى البيئات الاسلامية التي ساندت النظام السابق ولا تزال مزروعة في أرجاء الدولة العميقة، لكن اتساع “الثورة” مجتمعياّ وصوتها العالي في الشارع لم يمكّنا تلك البيئات من أي حجّة أو منطق لإثبات وجودها. خلال الحكم السابق كان يصعب على غير المنتمين الى التيار الإسلامي دخول القوات المسلحة، وبعد سقوطه ساهمت “قوى اعلان الحرية والتغيير”، عبر الاعتصام، في تسليط الضوء على الجنرالات المؤدلجين، ما استدعى انسحاب هؤلاء تباعاً من المجلس العسكري مع تقدّم التفاوض بين العسكريين والثوار. في تلك اللحظة أيقن “الاخوان المسلمون” وسائر الإسلاميين أن “حكمهم” قد سقط، وإنْ لم يعترفوا بأن هذه هي النهاية، فالمحاولات الانقلابية التي تحدث عنها الفريق عبد الفتاح البرهان وأعقبتها اعتقالات لضباط إسلاميين برهنت أن التيار الاخواني لم يقل بعد كلمته الأخيرة.
وجد العسكريون أنفسهم أمام حتمية التعوّد على فكرة تكاد تكون كابوسية: تسليم السلطة الى المدنيين، بل الى مدنيين أُقصوا عن الدولة والمؤسسات طيلة ثلاثين عاماً، وكانوا بكل وضوح وعلنية ضدّ “حكم العسكر”. لا شك أنها كانت مهمّة شاقة لكن ضباط المجلس استنتجوا سريعاً أن بقاءهم في الحكم، عنوةً أو مغالبةً، يعني سفك دم الشعب لإخضاعه، ثم ماذا بعد؟ لاح أمامهم خطر أزمة طويلة ومخاطر حرب أهلية أكثر هولاً وانتشاراً من حروب دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. لم يكن بإمكانهم أن ينسوا جذور الأزمة، وأن ما عجز عنه البشير على رغم علاقاته العربية والافريقية الواسعة لن يستطيعوا هم معالجته بعلاقات مستجدّة وغير ناضجة. وعدا التحذيرات الافريقية والدولية أدرك العسكريون حجم الضغط الداخلي الذي شكّله حراك شعبي غير مسبوق، سواء بانتظام أطرافه وتكتّلها وراء “اعلان الحرية والتغيير” وتحدّثها بمنطق ولغة موحّدين، بل إنهم لمسوا استبسالاً غير معهود على رغم سقوط قتلى وجرحى خلال التظاهرات التي سبقت الاعتصام، ثم مع استمرار القتل في فضّ الاعتصام وبعده.
العبرة الآن في تطبيق الاتفاقات الموقّعة وسيبقى الترقّب سيّد الموقف لدى العرب الحريصين على السودان وثورته، لأن المرحلة الانتقالية طويلة نسبياً وبات نجاحها رهن التعايش الإيجابي بين المدنيين والعسكريين بمقدار ما انه محكومٌ باستحقاقَين رئيسيين: السلام الداخلي مع الحركات المسلحة، وضبط الأزمة الاقتصادية تمهيداً للخروج منها. ثمة معايير أساسية يستطيع المدنيون ذوو الكفاءة اتّباعها بالنسبة الى الاقتصاد، فالتعويل على المساعدات الخارجية لا سيما العربية لا بدّ أن يُبنى على عنصرَي الثقة والشفافية، وهو ما لا يصعب على من يعملون من أجل السودان والسودانيين. في السابق كان جميع المانحين يعلمون مسبقاً أن البشير يعمل من أجل البشير، وأن مأسسة الفساد عنده جعلت كل هبة أو مساعدة تُنفق لشراء الولاءات ووفقاً لما يعظّم تسلّطه ويعزّز نظامه.
أما السلام فلا يعني فقط إنهاء التوتّر في الولايات الثلاث القلقة، ولعل مجرّد غياب البشير يجعل السلام ممكناً أخيراً. لا بدّ من انتهاء الحروب لتصبح التنمية ومواجهة أسباب الحرمان والتهميش متاحتين. وإذ نصت الوثيقة الدستورية على “إنفاذ العدالة الانتقالية والمحاسبة على الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وتقديم المتهمين الى المحاكم الوطنية والدولية إعمالاً لمبدأ عدم الإفلات من العقاب” فإن الحكومة المدنية وعسكريي مجلس السيادة والسلطة القضائية والمجلس التشريعي مدعوون الى قرارات شجاعة. ثمّة ثمنٌ يجب أن يُدفع لقاء مظالم الحقبة السابقة لكي يستقيم الوضع في البلد، ولتكن المحاسبة واضحة وشاملة عبر المحاكم الوطنية. فمن شأن ذلك أن يُقنع الحركات المسلّحة بصواب إلقاء سلاحها والانخراط في ورشة الإصلاح، وأن يقنع عموم السودانيين بأن عدالة وقوانين باتت تسري على الجميع.
هناك أحزاب لن تشارك في المرحلة الانتقالية، ومنها على الأخص “حزب البشير” أو بالأحرى أحزابه، وإذ تشكو من العزل والإقصاء فإنها تعرف الأسباب بلا شك وتعرف أيضاً أنه ليس إقصاءً مفتوحاً لأن انتخابات ستُجرى بعد ثلاث سنوات ويمكنها أن تشارك فيها وتتعرّف الى نمط حرّ ونزيه من الانتخابات لم تعرفه من قبل، ولن يشارك فيها أيٌّ ممن سيتولّون مسؤوليات خلال المرحلة الانتقالية.