وليد شقير
سيحتاج لبنان إلى الكثير من العناية الدولية الفائقة في المرحلة المقبلة. هذا هو تفسير الحد الأدنى لبيان السفارة الأميركية في بيروت أول من أمس، حول حادثة قبرشمون – البساتين، الداعي إلى “رفض أي محاولة لاستغلال الحدث المأسوي الذي وقع في قبرشمون في 30 حزيران الماضي بهدف تعزيز أهداف سياسية”.
وإذا كان من الطبيعي أن يستغل رموز “الممانعة” البيان الأميركي من أجل الدلالة على “تدخل أميركي في شأن داخلي”، فإن “التهمة” سواء لواشنطن، بأنها تنحاز إلى فريق، أم للقوى المستفيدة من دعوة السفارة “السلطات اللبنانية أن تتعامل مع هذا الأمر بطريقة تحقق العدالة دون تأجيج نعرات طائفية ومناطقية بخلفيات سياسية”، بأنها تستقوي بالسفارة، باتت سخيفة في بلد مفتوح لما هو أكثر من السفارات والقناصل. فخطوط الفرقاء المتنازعين مشرعة على عواصم الدول سواء كانت صاحبة مصالح أو أطماع في البلد الصغير الذي يختصر في كثير من الحالات الصراع الإقليمي. هناك أطراف يتباهون بانتمائهم الخارجي، مثل “حزب الله” وتبعيته للولي الفقيه، فيما لا يخفي حلفاؤه بدءاً من “التيار الوطني الحر” انحيازهم إلى المحور الإيراني – السوري، ويسعون للتطبيع الرسمي الكامل معه، لاعتقادهم أنه المنتصر إقليميا. أما حديث رئيس “التيار الحر” عن لجوء البعض إلى السفارات، فقد اكتفت وسائل إعلامية بتنبيه ذاكرته القاصرة إلى لجوء العماد ميشال عون عام 1990 إلى السفارة الفرنسية وبقائه فيها لأشهر…
العواصم كافة ترصد كل شاردة في لبنان. والديبلوماسيون الأجانب بادروا فور الحادثة الدموية في قبرشمون إلى طرح السؤال على سياسيين معنيين وحياديين، وصحافيين: ما الذي حصل في 30 حزيران (يونيو) في الجبل، في محاولة فهم خلفياته المعقدة، وأبعاده المقبلة، لأنهم أدركوا أن الأمر يتعدى واقعة الصدام المحلي بالمعنى الضيق. وفريق السلطة نفسه “عظّم” الحادثة حين دعا الرئيس عون إلى انعقاد المجلس الأعلى للدفاع لبحث الحادثة. وبعض هؤلاء الديبلوماسيين تعمّق في متابعة المعالجات الأمنية والقضائية، والوساطات السياسية، وما أحاط بها، من مصادرها الأصلية…
لم يأت بيان السفارة الأميركية عن “دعم الولايات المتحدة المراجعة القضائية العادلة والشفافة دون أي تدخل سياسي” (كما جاء في البيان) من فراغ. فالمعلومات تفيد بأن طاقمها وثّق هذا “التدخل السياسي” عبر الصلة المباشرة بالمصادر الأصلية أيضا، ولم يعتمد فقط على اتهامات “الحزب التقدمي الاشتراكي” بحصول مداخلات من قبل وزراء الرئاسة. وهذا يزيد من حجم الفضيحة ولا يخدم عملية إخفاء الوقائع، التي زادها انكشافا ذلك الاستسهال في الاعتداد بالنفس عند من أخذتهم نشوة السلطة.
إلا أن تداعيات صدور بيان السفارة تتعدى مسألة التدخل في شأن داخلي أو عدمه، لأن توقيته لا يلائم سعي جهات في الخارجية الأميركية وفي البنتاغون، وأخرى أوروبية إلى مواجهة جهات في البيض الأبيض وفي الاتحاد الأوروبي، إلى زيادة الضغوط على السلطة في لبنان، لاعتقادها أن دور “حزب الله” يتزايد في صوغ سياسات البلد وفي التأثير في قرارات الحكومة، عبر تحالفه مع الرئاسة اللبنانية وقوى أخرى داخلها. هذا ما عكسته مناقشات تمهيدية في مجلس الأمن لصدور قرار التجديد لقوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان (يونيفيل) المنتظر آخر الشهر الجاري، ومشاورات جرت مع ديبلوماسيين أميركيين وأوروبيين في هذا الشأن في واشنطن، وفق تقارير واردة إلى بيروت. فأصحاب وجهة النظر المتشددة، لا سيما في البيت الأبيض، يريدون أن تكون مهمة “يونيفيل” في الجنوب إزاء الحزب أكثر حزما امتدادا لتشدده حيال إيران، فيما تتهيأ إدارة دونالد ترامب لإصدار عقوبات جديدة على قيادة “حزب الله”، جاءت الدفعة الأخيرة منها حيال نائبين منتخبين في البرلمان مؤشرا إلى قساوتها. والأخطر في هذا التوجه أن هناك في البيت الأبيض من يعتقد بأن على واشنطن ألا تكترث بعد الآن للتأثير السلبي لأي عقوبات جديدة ضد الحزب، على الاقتصاد اللبناني الضعيف. أما في الخارجية وفي البنتاغون فالاتجاه الغالب هو مواصلة دعم المؤسسات الحكومية والجيش والمساهمة في الحؤول دون التدهور الاقتصادي في مواجهة نفوذ “حزب الله”. أما أوروبيا فإذا كان يصعب على دولة مثل فرنسا الحؤول دون المزيد من العقوبات فإنها تسعى بقوة في إطار مجلس الأمن، إلى عدم تعديل مهمة “يونيفيل”، للحؤول دون انتقال التوتر الإقليمي إلى الجنوب.
ما علاقة “قبرشمون” بكل ذلك؟
يصعب فصل الضغوط التي يتعرض لها رئيس “الاشتراكي” وليد جنبلاط في الجبل عما تعتقده دول غربية منها واشنطن، محاولة لتطويعه لإضعاف أي جهة تقف ضد انسجام السلطة السياسية اللبنانية مع مقتضيات المواجهة التي تخوضها إيران ومعها النظام في دمشق، على الصعيد الإقليمي. فالاستعصاء الجنبلاطي الدرزي على التطويع، على رغم الليونة التي أظهرها زعيم المختارة سابقا، هو ذريعة للدول والجهات التي تنحاز إلى عدم فقدان الأمل من دعم لبنان، بأنه لم يسقط كليا في دائرة النفوذ الإيراني السوري.
استطرادا تهتم الأوساط الديبلوماسية الأجنبية بالمخارج أجل إنزال “حزب الله” والرئيس عون عن شجرة الشروط التصعيدية التي وضعاها في شكل يحول دون اجتماع الحكومة.