غسان شربل
ما أصعبَ أن تولدَ على خط التماس. سيبقى الخوف رفيقك. خط التماس بين القوميات والأديان والمذاهب والدول. أعرف أن ثمة من يسارع إلى القول: إن التعدد مصدر غنى. لكن الحقيقة هي أن التعدد يبقى مشروع اشتباك ما لم تتجذر ثقافة القبول بالآخر واللقاء معه في منتصف الطريق. القبول بالعيش تحت سقف واحد مع شخص لا يشبهك، ويشرب من ينابيع غير التي تشرب منها. وغالباً ما يرث الطفل الذي يولد على خط التماس أغاني والديه ومخاوف أجداده، وهي تصبُّ في معظم الأحيان في تغذية الخوف على الهوية والتراث وحق العيش بحرية. أفكر هنا مثلاً في طفل مسلم يولد في الجزء الهندي من كشمير، ويرث عن والديه حلم الالتحاق مع مسقط رأسه بباكستان.
ليس من السهل أبداً تصحيح الأخطاء التي ارتكبت في رسم الخرائط. ولا يكفي القول إنه يجب ترك السكان يمارسون حق تقرير المصير في استفتاء نزيه. القصة أكثر تعقيداً وأخطر. الخلافات عند خط التماس ترتدي في أحيان كثيرة طابع الجرح الوطني. تسقط البلاد بأسرها أسيرة جزء صغير متنازع عليه مع دولة جارة أو قومية أخرى. يصبح مصير هذا الجزء امتحاناً دائماً وعاصفاً، ويغدو أي رسوب فيه مرادفاً للكارثة. وفي التعامل مع هذه الجروح الوطنية يصبح كل اعتدال خيانة، خصوصاً حين يهدر الشارع محذراً المعتدلين والمفرطين.
منذ الولادة في 1947، تحولت كشمير جرحاً بالغاً في جسد العلاقات الهندية – الباكستانية، وكانت السبب في اندلاع حربين بين البلدين اللذين تعج شوارعهما بالفقراء. لم يستطع أحد من الذين تعاقبوا على موقع القرار في باكستان، من عسكريين ومدنيين، نزعَ فتيل هذه العبوة المتفجرة. يمكن قول الأمر نفسه بالنسبة إلى كل الزعماء الذين تعاقبوا على موقع القرار في الهند.
لم تنجح الأمم المتحدة في حل عقدة كشمير، ولم ينجح الوسطاء الآخرون والناصحون. ولا مبالغة في القول إن سيناريو المواجهة بسبب كشمير يعتبر بنداً ثابتاً لدى جنرالات الجيشين. ولم يؤدِ امتلاك البلدين السلاحَ النووي إلى إطفاء جمر التوتر في كشمير، بل اكتفى ببرمجة المواجهات على نحو يحول دون تحولها حرباً شاملة تنذر بوليمة نووية.
بدأ الفصل الجديد من التوتر حين أقدمت حكومة ناريندرا مودي على إلغاء الوضع الخاص لولاية جامو كشمير الذي كان يضمنه الدستور الهندي. وأقر البرلمان الذي يسيطر عليه الحزب الهندوسي القومي الخطوة، متضمنة قراراً بتقسيم الشطر الهندي من كشمير إلى منطقتين خاضعتين مباشرة لسلطة نيودلهي. وترافق ذلك مع إرسال تعزيزات عسكرية هندية إلى المنطقة، وقطع الاتصالات لمنع المعترضين من الاحتشاد وتنظيم احتجاجات واسعة وعنيفة. وتحولت المشكلة سريعاً إلى أزمة حادة تنذر بالتهاب خط التماس. فقد حذر رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان من اندلاع نزاع واسع، وانهمك الجنرالات الباكستانيون في تحديث الخطط العسكرية المعدة سابقاً. ترافق ذلك مع طرد السفير الهندي من باكستان، وخفض العلاقات الدبلوماسية، وتقليص التبادل التجاري. ولعل الأخطر فيما قالته باكستان هو أن الإجراءات الهندية، خصوصاً تقسيم الولاية، ترمي إلى تحويل المسلمين أقلية، وفتح الباب أمام تغيير في الهوية والمعادلة الديمغرافية.
ذكرني خط التماس في كشمير بخطوط التماس الكامنة أو المشتعلة في منطقتنا. في سبتمبر (أيلول) 2017، وقبل أيام من الاستفتاء الذي دعا إليه رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني آنذاك، زرت الإقليم وحرصت على القيام بجولة في منطقة كركوك التي اختارت الانضواء في مشروع الاستفتاء. جلت في تلك المنطقة المصابة بثروتين تحولتا لعنتين، وهما تعدد الانتماءات والنفط. في شوارع المدينة، تتجاور متاجر الأكراد مع متاجر العرب والتركمان. وقد عثرت العشائر المختلفة هناك على آلية لضبط الخلافات، ومنع تحولها إلى نزاعات واسعة.
على الرغم من حرص من التقيتهم على خفض منسوب القلق من المستقبل، كان واضحاً أن الخوف هو الشعور الوحيد المشترك بين هذا الخليط الذي حكم عليه بالعيش في مكان واحد. كان لدى الأكراد خوف من أن تكون نسبة المشاركة في الاستفتاء ضئيلة بسبب الخلافات الكردية – الكردية، وتاريخ طويل من المناورات وتبادل الطعنات. وكان لدى العرب خوف من مستقبل العيش في المنطقة، إذا اختارت كركوك تجديد حلمها الكردي والالتحاق بالإقليم. ولم يكن سراً أن بعض التركمان يراهنون على أن الدول المجاورة، وفي مقدمها تركيا، لن تسمح أبداً للإقليم بضم كركوك إليه، ولن تسمح بولادة كيان كردي مستقل أو شبه مستقل.
وما حصل بعد أسابيع هو أن الدول التي يتوزع الأكراد على خرائطها، والتي تختلف في أمور كثيرة، اختارت الاتفاق على إجهاض نتائج الاستفتاء الكردي، وعاقبت إقليم كردستان.
والحقيقة أن ما تقوله باكستان عن اتجاه لإحداث انقلاب ديمغرافي في كشمير حدث مراراً في كركوك. فأهل المدينة يتحدثون عن حملات التتريك والتعريب والتكريد عبر حقبات مختلفة. وأدت الحملات إلى تغييرات في المعادلات السكانية عمقت الجروح الكامنة عند خطوط التماس.
أزمات خط التماس أزمات مقيمة وطويلة، لا يجرؤ المسؤول أو الحزبي على تقديم تنازل. الجماهير تطالب بمواقف قاطعة، أي بانتصار كامل، وهو متعذر أو باهظ. تغيرت الحكومات في العراق، وتغير اسم الرجل القوي، وظلت كركوك ناراً يمكن كبحها، ولكن يتعذر إخمادها.
ملفات يزيدها مرور الوقت تعقيداً والتهاباً. القدس أيضاً تقيم على خطوط التماس. محاولات التنازل فيها تشبه تقريب النار من براميل البارود. محاولات تهويدها وتطويقها تجري على قدم وساق. لكن القهر ليس حلاً دائماً. والهويات المقموعة تغور وتتصلب ثم تطل. من كشمير إلى القدس إلى كركوك عالم غارق في آبار الخوف المقيمة عند خطوط التماس. وفي معارك الهويات هذه يفضل المسؤولون دفع ثمن النزاعات على دفع ثمن التسويات.
ليس من السهل أبداً تصحيح الأخطاء التي ارتكبت في رسم الخرائط. ولا يكفي القول إنه يجب ترك السكان يمارسون حق تقرير المصير في استفتاء نزيه. القصة أكثر تعقيداً وأخطر. الخلافات عند خط التماس ترتدي في أحيان كثيرة طابع الجرح الوطني. تسقط البلاد بأسرها أسيرة جزء صغير متنازع عليه مع دولة جارة أو قومية أخرى. يصبح مصير هذا الجزء امتحاناً دائماً وعاصفاً، ويغدو أي رسوب فيه مرادفاً للكارثة. وفي التعامل مع هذه الجروح الوطنية يصبح كل اعتدال خيانة، خصوصاً حين يهدر الشارع محذراً المعتدلين والمفرطين.
منذ الولادة في 1947، تحولت كشمير جرحاً بالغاً في جسد العلاقات الهندية – الباكستانية، وكانت السبب في اندلاع حربين بين البلدين اللذين تعج شوارعهما بالفقراء. لم يستطع أحد من الذين تعاقبوا على موقع القرار في باكستان، من عسكريين ومدنيين، نزعَ فتيل هذه العبوة المتفجرة. يمكن قول الأمر نفسه بالنسبة إلى كل الزعماء الذين تعاقبوا على موقع القرار في الهند.
لم تنجح الأمم المتحدة في حل عقدة كشمير، ولم ينجح الوسطاء الآخرون والناصحون. ولا مبالغة في القول إن سيناريو المواجهة بسبب كشمير يعتبر بنداً ثابتاً لدى جنرالات الجيشين. ولم يؤدِ امتلاك البلدين السلاحَ النووي إلى إطفاء جمر التوتر في كشمير، بل اكتفى ببرمجة المواجهات على نحو يحول دون تحولها حرباً شاملة تنذر بوليمة نووية.
بدأ الفصل الجديد من التوتر حين أقدمت حكومة ناريندرا مودي على إلغاء الوضع الخاص لولاية جامو كشمير الذي كان يضمنه الدستور الهندي. وأقر البرلمان الذي يسيطر عليه الحزب الهندوسي القومي الخطوة، متضمنة قراراً بتقسيم الشطر الهندي من كشمير إلى منطقتين خاضعتين مباشرة لسلطة نيودلهي. وترافق ذلك مع إرسال تعزيزات عسكرية هندية إلى المنطقة، وقطع الاتصالات لمنع المعترضين من الاحتشاد وتنظيم احتجاجات واسعة وعنيفة. وتحولت المشكلة سريعاً إلى أزمة حادة تنذر بالتهاب خط التماس. فقد حذر رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان من اندلاع نزاع واسع، وانهمك الجنرالات الباكستانيون في تحديث الخطط العسكرية المعدة سابقاً. ترافق ذلك مع طرد السفير الهندي من باكستان، وخفض العلاقات الدبلوماسية، وتقليص التبادل التجاري. ولعل الأخطر فيما قالته باكستان هو أن الإجراءات الهندية، خصوصاً تقسيم الولاية، ترمي إلى تحويل المسلمين أقلية، وفتح الباب أمام تغيير في الهوية والمعادلة الديمغرافية.
ذكرني خط التماس في كشمير بخطوط التماس الكامنة أو المشتعلة في منطقتنا. في سبتمبر (أيلول) 2017، وقبل أيام من الاستفتاء الذي دعا إليه رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني آنذاك، زرت الإقليم وحرصت على القيام بجولة في منطقة كركوك التي اختارت الانضواء في مشروع الاستفتاء. جلت في تلك المنطقة المصابة بثروتين تحولتا لعنتين، وهما تعدد الانتماءات والنفط. في شوارع المدينة، تتجاور متاجر الأكراد مع متاجر العرب والتركمان. وقد عثرت العشائر المختلفة هناك على آلية لضبط الخلافات، ومنع تحولها إلى نزاعات واسعة.
على الرغم من حرص من التقيتهم على خفض منسوب القلق من المستقبل، كان واضحاً أن الخوف هو الشعور الوحيد المشترك بين هذا الخليط الذي حكم عليه بالعيش في مكان واحد. كان لدى الأكراد خوف من أن تكون نسبة المشاركة في الاستفتاء ضئيلة بسبب الخلافات الكردية – الكردية، وتاريخ طويل من المناورات وتبادل الطعنات. وكان لدى العرب خوف من مستقبل العيش في المنطقة، إذا اختارت كركوك تجديد حلمها الكردي والالتحاق بالإقليم. ولم يكن سراً أن بعض التركمان يراهنون على أن الدول المجاورة، وفي مقدمها تركيا، لن تسمح أبداً للإقليم بضم كركوك إليه، ولن تسمح بولادة كيان كردي مستقل أو شبه مستقل.
وما حصل بعد أسابيع هو أن الدول التي يتوزع الأكراد على خرائطها، والتي تختلف في أمور كثيرة، اختارت الاتفاق على إجهاض نتائج الاستفتاء الكردي، وعاقبت إقليم كردستان.
والحقيقة أن ما تقوله باكستان عن اتجاه لإحداث انقلاب ديمغرافي في كشمير حدث مراراً في كركوك. فأهل المدينة يتحدثون عن حملات التتريك والتعريب والتكريد عبر حقبات مختلفة. وأدت الحملات إلى تغييرات في المعادلات السكانية عمقت الجروح الكامنة عند خطوط التماس.
أزمات خط التماس أزمات مقيمة وطويلة، لا يجرؤ المسؤول أو الحزبي على تقديم تنازل. الجماهير تطالب بمواقف قاطعة، أي بانتصار كامل، وهو متعذر أو باهظ. تغيرت الحكومات في العراق، وتغير اسم الرجل القوي، وظلت كركوك ناراً يمكن كبحها، ولكن يتعذر إخمادها.
ملفات يزيدها مرور الوقت تعقيداً والتهاباً. القدس أيضاً تقيم على خطوط التماس. محاولات التنازل فيها تشبه تقريب النار من براميل البارود. محاولات تهويدها وتطويقها تجري على قدم وساق. لكن القهر ليس حلاً دائماً. والهويات المقموعة تغور وتتصلب ثم تطل. من كشمير إلى القدس إلى كركوك عالم غارق في آبار الخوف المقيمة عند خطوط التماس. وفي معارك الهويات هذه يفضل المسؤولون دفع ثمن النزاعات على دفع ثمن التسويات.