أتصفّح الأيّام، فلا أقع على الجمال في أخبارها.
كبار القوم يلعبون لعبة الشرّ، وصغارهم يتلهّون بما يُرفّه عن النفس.
قلّةٌ من تقرأ أدبًا، من تتوقّف عند فنّ، من تتمهّل لتتأمّل جمالاً.
السرعة تنهش العقول. مرضٌ فتّاك! لا جمال هذه الأيّام، لأنّه لا هدوء.
التفاهة أينما كان. يكفي أن تكتب بضع كلمات مثيرة وتنشرها حتّى يتهافت القرّاء على “تثقيف” أنفسهم.
الصورة أصبحت سيّدة العالم، صنمَ هذا الدهر. العيون جائعة إلى أن تُشاهِد، خبزها الإثارة… خبرٌ بلا صورة خبرٌ مائت قبل أن يُكتَب.
الأخبار تتشابه: قتل وضرب وتنكيل وفساد… هذا يتآمر على ذاك، وذاك يصافح هذا لبُغية. صديقك اليوم، عدوّك غدًا.
أين الحبّ؟ أين الرقيّ؟ أين الهدوء؟ صراخٌ وعويل وشحن بغيض… قَلَّ من يحاورون، وكَثُر من يضجّون. نَدرت الأناقة، أناقة الأنفس لا الأجساد.
أفسد البشر في الأرض كلَّ شيء: السياسة، الأخلاق، البيئة، حتّى الهواء الذي نتنشّقه مجّانًا… الخيّرون منهم يحاولون الإصلاح، لكنّهم بقيّة البقيّة.
أحسدُ راعي الغنم السعيد، ذلك الذي يبتسم للاشيء. يبتسم، لأنّه يعاشر العشب والزهر… والحيوان.
أحسدُ ناسك الدير البعيد، الذي لا يمسك جريدة ولا يتصفّح موقعًا إخباريًّا، فعرف كيف يهدأ ويتغرّب عمّا يخضّ العالم وناسَه.
آه، لو قُدِّر لي أن أصعد إلى القمر لأنظر الأرض من هناك!
من هناك أراها بعينَي الله، كما خلقها في البدء: عذراء جميلة، كُرةً صغيرة جدًّا كي تجاور غيرها من كواكب الله، وفسيحة جدًّا كي تسع الجميع، جميع البشر.
الأرض من فوق تحضن الجميع. تحضن من يختتنون ومن يُبسملون ومن يؤذّنون. تسعُ عبّادَ الحجر وعشّاق اللاّشيء.
الأرض من فوق أجمل، أهدأ. أمٌّ تتسامى فوق خلافات هذا وذاك…
ومَن هو هذا وذاك مِن فوق؟ عظيمُ الأرض لا يُرى من فوق، أصغر من حبّة رمل بما لا قياس. جبروت المتجبّر هباء من هناك، تبنٌ يُذرّيه الريح.
الأرض من فوق، غيمُها يُهطل مطرًا على الجميع، وأرضها تُنبت كلأً للكلّ، أمّا شمسها فتوزّع طاقتها على من يستحقّ ومن لا يستحقّ.
من فوق، ما من نجس، ما من كافر، ما من مؤمن.
مَن يتسامى يرى الأمور بتسامٍ، بحضارة، بأناقة، لأنّه يرى الحقيقة من جوانبها كلّها، من يمينها ويسارها، من فوقها وتحتها. من يتسامى يرى حقّه وحقّ غيره، لا حقّه دون حقّ أخيه.
لماذا الله عادل؟ لأنّه فوق. فوق ترّهات البشر. لا يغرق في مستنقعاتهم، ولا يحدّ مدى نظره بلجام البغض والطمع.
أراه ينظر، ومن فوق يستهزئ بطمع البشر: “لمَ يختلف أهلُ الأرض؟ لمَ يتقاتلون ويتذابحون؟ علامَ يتناهشون؟ والأغرب أنّهم يفعلون هذا كلّه…. باسمي”.
معظم سلاطين الأرض لا يتسامون، رأسهم أسفل وقراراتهم سُفلى.
غريب الإنسان! أينما يمرّ، قلّما يترك وراءه حبًّا، مع أنّه خُلقَ بحبّ وكي يحبّ.
لماذا لا يتشبّه بالشمس التي توزّع نورها يمنة ويسرة؟ لماذا لا يماثلُ المطر الذي يروي ما طاب من الشجر وما كان منه بلا جدوى؟ لماذا لا يُشبه الهواء الذي ينظّف دومًا نفسه ويرمي عنه تلوّثَ البشر؟
الخير لا يحتاج إلى الكثير كي يخرج منّا. يحتاج فقط قلبًا نقيًّا. والقلب النقيّ ثمرة الهدوء. والهدوء لا يُكتسَب إلاّ إذا تركنا الله يوسّع قلبَنا وسع حبّه.
غنّت فيروز: “القمر بيضوّي ع الناس، والناس بيتقاتلو. ع مزارع الأرض الناس، ع حجارة بيتقاتلو… نحنا ما عنّا حجر، لا مزارع ولا سجر…. إنت وأنا يا حبيبي، بيكفّينا ضوّ القمر”.
اكتفوا بضوّ القمر. اهدأوا وغنّوا الحبّ… والباقي يُزاد لكم.