أحمد المسلماني
هاشتاج، ثم تريند، ثم لاشئ.. هكذا تمضي صناعة الوهم. حين يبدأ “الهاشتاج” رحلتَه نحو الفراغ.. يشعر كثيرون أن العالم كان بانتظار ذلك الانطلاق. بعد قليل ينسى الجميع ما كان من شأن “التريند” السابق وسط الزحام الجديد من التريندات، وفوضى الهاشتاجيين الجُدد.
يصعد الهاشتاج كما يصعد نقيضه.. الهاشتاج والهاشتاج المضاد معًا. لا يثبت “الهاشتاجيون” على حال.. ذلك أن السمة الرئيسية لذلك الجديد هو الزئبقيّة. لا ثَبات، كل شئ هالكٌ بعد قليل، والمعايير التي حكمت الساعات السابقة قد لا تكون هى ما تحكم الساعات القادمة. آراء لا نهائية السيولة، وأصحاب رأى لا يخجلون من تراقُص آرائهم على مدار الساعة.. وهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال.
يكاد العالم الافتراضي أن ينتصر على العالم الواقعي.. حيث أصبحنا إزاء عالم مختلط حيث يعيش الإنسان العولمي نصف حقيقة ونصف خيال.. نصف حياته قائم على كوكب الأرض، يدور وراء كسب المعيشة وسدّ الحاجة، والنصف الثاني معلّق على شاشة الهاتف، يدور مع الأقمار الصناعية في مداراتها البعيدة.
أدركت الحكومات والمؤسسات كما أدركت الجماعات والأفراد ذلك التغيير الكبير الذي طرأ على طبيعة الإنسان الذي انحسر الواقع عنده إلى النصف أو ما دون النصف. وعلى أثر ذلك.. جرى السباق على استثمار النصف الافتراضي في الإنسان الجديد.
أصبحت الحرب السيبرانية واحدةً من أكبر ملامح النظام العالمي المعاصر. لقد نشأت ضمن معارك تلك الحرب الإلكترونية العالمية آليات جديدة هى الكتائب الإلكترونية. حيث يقبع أشخاص مجهولون خلف شاشاتٍ سريّة لينفذوا رؤية سادتهم.. من تعظيم من يرون تعظيمه، وتدنيس ما يرون تدنيسه.
كانت الجيوش الإلكترونية حصريًّا في عددٍ محدود من الحكومات وأجهزة الاستخبارات، ثم إنها تمدّدت الآن لتصبح من آليات الجماعات والتنظيمات، وكذلك الشركات والأشخاص. أصبح بمقدور شخص ما أن يؤسس كتيبة إلكترونية تعمل من أجل الدفاع عنه وتشويه خصومه. وأصبح بمقدور الجماعات والحركات أنْ تتفرّغ كتائبها للكذب بشأن الأطراف الأخرى.. واصفةً إيّاها بكل ما يحطّ من شأنها وينال من مكانتها ومسارها. يجلس أعضاء الكتيبة الإلكترونية في ظلام دامس من دون أن يراهم أحد. وهم يكتبون ما يشاؤون حيث أن أسماءهم وحساباتهم هى كلها خادعة ومزيفة. ولقد نشرت مجلة “نيويوركر” الأمريكية رسمًا كاريكاتيريًّا ذات يوم لكلبيْن يجلسان أمام شاشة الكمبيوتر.. وبينما يتردد أحد الكلبيْن في الكتابة، يقول الكلب الآخر: لا تقلق.. الانترنت لا يعرف أنك كلب.
حطّمت الكلاب الإلكترونية أوطانًا وشعوبًا.. دمرّت التماسك الاجتماعي، والانتماء الوطني.. وسط حماقات ملايين المتلقيّن الذين يكتبون باستكبار واستعلاءٍ.. وكأنّهم فلاسفة كبار أو مفكرين ذوي مكانة.. بينما هم مجرد أداة رخيصة في أيدي كلاب سيبرانية تدير عقولهم بأطراف ذيولها!
لقد تجاوزت الحرب السيبرانية العالمية ذلك المستوى القديم من الكتائب الإلكترونية، وجرى تصميم برامج كمبيوتر تعمل بطريقةٍ آلية لتحقيق الهدف ذاته. تحدث الوقيعة بين الشعب والسلطة، أو الشعب والشعب.. أو بين دولة وأخرى، ويتعالى هجوم كل طرفٍ على الآخر.. بينما من يدير التصعيد في الواقع.. هو من يقف وراء سيل التعليقات التي يطلقها البرنامج في الاتجاهات المقصودة.
في كلمتي أمام منتدى “مجموعة الرؤية الاستراتيجية – روسيا العالم الإسلامي” التي يترأسها السيد رستم مينيخانوف رئيس جمهورية تتارستان الروسية، والذي انعقد في مدينة سانت بطرسبورج سبتمبر 2019.. بحضور فريد محميتشين نائب رئيس لجنة الشؤون الدولية في المجلس الفيدرالي والسفير فينيامين بوبوف.. أطلقتُ على الاتجاهات الشعبية المزيّفة التي تنتجها الحروب السيبرانية اسم “الرأى العام الصناعي”. إنّه ليس الرأى العام الطبيعي أيًّا كان الأساس الذي بُني عليه أو اتجه إليه.. بل هو رأى عام تجري صناعته في عواصم أخرى وأجهزة أخرى لأجل إظهار الرأي العام في قضية مّا على غير الحقيقة. إنّها سرقة الحديث باسم الناس من قِبل صناعة مجهولة المنشأ.
يمثّل “الرأى العام الصناعي” خطرًا عظيمًا على الحرية والديمقراطية، ذلك أنّه باتَ يحجب الرأى العام الحقيقي. ثم إنه يستثمر ابتعاد “الأغلبية الصامتة” عن المشهد. ليصبح الرأى العام الصناعي أكثر نفوذًا وأعلى حضورًا في ظل غياب الغالبية، وسطوة الأقليّة السيبرانية.
أصبحت الديمقراطية المعاصرة مهددة بمثلث خطير يشبه مثلث برمودا الذي بمقدوره أن يبتلع كل شئ. إنها مهدّدة بسطوة المال، والرأى العام الصناعي، والأغلبية الصامتة.
لم يعد ممكنًا بأىّ حال خوض معارك انتخابية في الغرب وفي غير الغرب من دون الدعم المالي الذي يوفر بدوره الدعم الإعلامي، كما لم يعد ممكنًا جذب الأغلبية الصامتة إلى مشهدٍ تدرك أنه باتَ أسير المال والإعلام، ثم إنه لم يعد ممكنًا إدراك توجهات الرأى العام الحقيقية إزاء الصعود الكبير للرأى العام الصناعي.
لقد أدّت الضغوط الكبيرة التي قادها العقلاء ضد فوضى الرأى، وزحام الحسابات الداعية للجريمة أو الإرهاب، أو المعادية للأمن والسلام إلى استجابة الشركات الكبرى أكثر من ذي قبل. وفي أبريل 2018 أعلن “تويتر” حذف (1,2) مليون حساب خلال السنوات الثلاث من 2015 – 2017. وخلال الربع الأول من عام 2018 حذف “فيسبوك” أكثر من نصف مليار حساب، وفي الربع الأخير من عام 2018 حذف أكثر من مليار حساب!
وحسب وكالة أسوشياتدبرس فإنّ “فيسبوك” قام بحذف (2,2) مليار حساب وهمي خلال الربع الأول من عام 2019. وهكذا جرى حذف أكثر من (2) مليار حساب على فيسبوك في ثلاثة أشهر فقط!
إن أرقام الحذف هذه توضيح حجم المأساة التي باتت تهدد الفكر الإنساني. ولاشك أن تريليونات الآراء الحمقاء والإجرامية والإرهابية لاتزال صامدة وفاعلة.
إن “الرأى العام الصناعي” هو خطر عظيم، ومواجهته شبه المستحيلة هى أكبر ما يواجه الدولة الوطنية في القرن الحادي والعشرين. يوجد بالطبع.. أولئك العقلاء من مستخدمي شبكات التواصل، وهم عقلاء مؤيدون ومعارضون.. يمتلكون الرؤية والإدراك، ويمكنهم تقديم أفكار رائعة. إنهم يمتلكون آراء باهرة ومعرفة عميقة ورؤى خلّاقة. لكن هؤلاء العقلاء ليس بمقدورهم الظهور وسط كلّ هذه الضوضاء. إنهم أشبه بطفلٍ يصرخ في ميدان صاخب، أو مثل إنسانٍ يلقي خطبةً عصماء.. في الصحراء الكبرى!