– خاص – من هاني نديم ـ يعلمنا التاريخ دوماً أن أيام الحروب البشعة تدفع ـ بالضرورةـ معادلاً جمالياً مقابلاً تحت نظرية الأواني المستطرقة التي نحتاجها في عالم الجمال كما تحتاجها في الفيزياء تماماً. وهو ما يمكنني أن استعمله كمقدمة لفهم مسيرة نينا ريتشي Nina Ricci التي تحولت إلى ما يشبه الأسطورة لفرادتها وسحرها ونبلها.
ولكن لماذا على شاعر مثلي أن يكتب عن نينا ريتشي؟ الجواب: لأنني أراها قصيدة جمالية ممتدة ما زال أثرها حتى يومنا هذا.
بعد الحرب العالمية الأولى، وفي العام 1932 قررت السيدة الإيطالية/ الفرنسية نينا ريتشي تأسيس دار أزياء راقية ذلك لأن النساء تحولن إلى “فزاعات” جراء الأسى وفقد الرجال؛ الوصف الذي حامت حوله نينا ريتشي ولم تصرّح به، إذ تحولت أزياء النساء آنذاك إلى أزياء صارمة بألوان باهتة تميل إلى محاكاة ملابس الرجل بعد مرور العالم بحروب طاحنة غيرت مزاج الجمال نحو عالم ذكوري فجّ. وهذا تماماً سبب وجود نينا ريتشي التي سعت لإبراز أنوثة السيدات من خلال تصميمات في منتهى النعومة والأنوثة واصفة مناخ الأزياءالعام بقولها: “فلنحاول أن ندعم ذلك الجمال المختبئ خلف كل هذا القبح الظاهر في العالم”.
الذوق أرزاق!
ولدت “ماريا أديلايد نيلي” عام 1883 في تورينو ثم انتقلت إلى فلورنسا مع عائلتها عندما كان عمرها خمس سنوات. لتستقر في فرنسا 1895 حيث اكتسبت لقبها “نينا”.
يصفها بوربوز بأنها “ولدت وفي فمها ملعقة من الذوق”!، لقد كانت طفلة تصنع أزياء لعبها وبيوتها لتنضم أول سنوات مراهقتها إلى متجر خياطة شهير في باريس لتتعلم وتتدرب على تحقيق حلمها. تزوجت بعد ذلك من لويجي ريتشي، وهو مُصمِّم وصانع مجوهرات في عام 1904. الأمر الذي دفعها قدماً في عالم الجمال والتصميم فانضمت كمصممة إلى “رافين”، وهي دار أزياء متوسطة، وعملت هناك لمدة عشرين عاما لتصبح شريكة في الدار قبل أن تنفضل وتفتح دارها نينا ريتشي عام 1932 التي قامت على فلسفة إحياء أنوثة المرأة.
من غرفةٍ صغيرة إلى كل الكوكب
لقد دخلت نينا ريتشي سوق باريس بوجود أكثر من 80 دار أزياء مسجلة في المدينة، منها ما هو رفيع المستوى لدرجة أن عملائه لا يقبلون الالتفات إلى غيره. فالفرنسيون يعتبرون الأزياء “سيرة ذاتية” أكثر مما يعتبرونه “تقليعة” خلاف الإيطاليين أصحاب القلوب القوية في التغيير والانتقال من خطٍ إلى آخر.
دخلت نينا السوق بين حربين وبين حيتان الأزياء الراقيةChanel و Vionnet و Lanvin وغيرهم ممن استحوذوا على عائلات فرنسا الارستقراطية. حتى جاءت هي لتقلب الطاولة بمنتهى البساطة، ومن خلال البساطة نفسها تتحول دارها التي بدأت من غرفة صغيرة في مبنى صغير بباريس عام 1932، بعد سنوات قليلة إلى صرحٍ مكون من 11 طابقاً يعمل فيه أكثر من 450 موظفاً.
ابنة صانع الأحذية الإيطالي ورثت عن أبيها البساطة والدقة والجمال والوسطية. وهو ما ظهر في كل منتجاتها، وسرعان ما تضمنت منتجاتها الاكسسوارات العصرية والسلع الجلدية. وبفراسةٍ فائقة كانت السيدة نينا موقنة من نجاحها فكرست كل وقتها وجهدها تماماً لمشروعها، بل وثقافتها أيضاً، فقد كانت تستطيع تمييز شخصيات عميلاتها وإبرازها من خلال تصميمات مبتكرة، جعلت لها بصمتها الواضحة والفريدة. ساعدها بذلك ابنها العبقري روبرت الذي بدأ بعشق ما تقوم به أمه منذ طفولته ليتسلم جميع الأعمال لاحقاَ.
وفي عام 1937 أُطلقت أول حملة إعلانية للشركة في مجلة vogue magazine. لتتصدر ريتشي أخبار الموضة والأزياء إلا أن الحرب العالمية الثانية أطلت برأسها القبيح وهدت باريس فوق رؤوس ساكنيها.
باريس بعد الحرب.. الجمال بعد الدمار
بعد الحرب، وفي عام 1945، حاول المصممون إحياء افتتان النساء بالأزياء الراقية مجدداً، وفي نفس الوقت حاولوا جمع الأموال للحصول على تمويل لأعمالهم وعودة الجمال تدريجياً للمدينة وذلك بمساعدةLucien Lelong ، Chambre de Commerce ، ووضعت نينا وابنها روبرت فكرة عرض أزياء كبير موضع التنفيذ. حيث أقيم معرض في متحف اللوفر بمشاركة أكثر من 145 عارضة أزياء من 40 مصمم أزياء في باريس، بما في ذلك غريس وبالينسياغا. وشهد المعرض نجاحاً باهراً ليقوم بجولة في معظم أنحاء أوروبا ثم الولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما أشعل شهرة نينا ريتشي من جديد بوصفها دار أزياء نبيلة تساهم في مساعدة منكوبي الحرب، تخدم الأغنياء ولا تزدري الفقراء.
علينا أن نذكّر هنا، أن دور الأزياء الكبرى هي بالأصل لوحة تشكيلية، انتقلت لتصبح عملاً مفاهيمياً! فهي دار تضم رسامين ونحاتين ومصممين ومصورين، وقد تحتوي على شعراء كما في بلانسيجا ونينا ريتشي التي استلهمت من الشعر والموسيقا ووظفت في أروقتها شعراء وكتاب أغانٍ مثل “جول فرانسوا”.
على الفساتين أن تكون صالحة للرقص!
توضح نينا الطريقة التي أرادت بها تصميم الفساتين بقولها: يجب أن تكون الفساتين خفيفة الوزن ومتقنة ومثالية للرقص. الأناقة والتفاصيل من اللباس يجب أن تجذب العملاء وتصبح المفضلة لديهم. وأخيرًا ، يجب أن تكون رصينة وجذابة لأصحاب الموضة الشباب. كما أنها من أوائل من صمموا ملابس القطعتين، التنورة والقميص.
كانت نينا في التاسعة والأربعين من عمرها مع انطلاق أعمالها وكان لديها الفضول لإنشاء تصاميم بنفسها تحت اسمها. صممت الفساتين بينما كان ابنها روبرت يدير الشؤون المالية والأعمال التجارية على وجه العموم والذي انتقل بالشركة إلى العالمية.
وفي ربيع عام 1959 عرضت نينا رتشي أزياء من تصميمها شكلت مفرقاً مهماً بالنسبة للأزياء في العالم عموماً وللشركة خصوصاً، وكان هذا العرض بمثابة ثورة في مجال الأزياء والتصميم، وأجمع حينها الحضور على “”Crocus” suit كأجمل تصميم في تلك المجموعة وازداد الطلب على هذا الرداء المليء بالورود بصورةٍ منقطعةِ النظير.
انتقلت حينها دار “نينا رتشي” إلى مرحلة العالمية، وازداد الإقبال على منتجاتها في معظم دول أوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية، كما كانت أول ماركة فرنسية تغزو قارة آسيا في اليابان في عام 1960.
ومن الجدير ذكره، أن نينا لم ترسم في حياتها قط!، كانت تضع المجسم وتصمم عليه القماش مباشرة تروح وتجيء وتلتف حوله ليخرج فستاناً مبهراً تدفعه مباشرة إلى المصنع دون أن تتردد، كان حسها العبقري وثقتها بفطرتها ما يميزها، ضربات فرشاة بسيطة لم تكن صارمة ولا قانون لها او قواعد، نوعٌ واحدٌ من القماش أو نوعان ومن ثم.. الأناقة تمشي في الشارع.
العالم بوصفه قارورة عطر
كان روبرت يدفع أمه منذ أواسط الثلاثينيات لإنتاج العطور وذلك لتوسيع حجم أعمال الدار وتوجيهها نحو العالمية، ومع انتهاء الحرب وخسارة الشركة أكثر من نصف رأسمالها، كان لا بد من زيادة خط إنتاج جديد ومبتكر، فقامت نينا ريتشي بتصنيع عطر “كواري جوي” الذي لحق بطيئاً بمبيعات العطور الأخرى القوية من بقية دور الأزياء، إلا أنه في عام 1948 ابتكرت نينا مع ابنها روبرت ومارك لاليك عطر L’Air du temps”” بحمامتيه المتشابكتين ليصنف كأشهر عطر فرنسي في التاريخ ويظل حتى اليوم من كلاسيكيات العطور الأكثر مبيعاً في العالم إلى جانب شانيل5، وArpège من لانفين، وJoy by Patou أو Shalimar من دار Guerlain.
يشارك روبرت بقوة في النجاح الأسطوري لعطور ريتشي، حيث كان مولعاً بها وينظر لها بفلسفة مختلفة، فيقول: “العطر بالنسبة لي حالة حب- حقيقة كانت أم خيال، ولفرط رومانسيتي.. لا استطيع تخيل الحياة بلا حلم”.
يمشي النجاح على طرفي الموهبة والمثابرة”، هكذا بكل بساطة..لكن قِصرَ هذه المعادلة لا يعني أن النجاح بالمتناول أبداً، إذ أن ساحة مليئة بالموهوبين والمثابرين أيضاً، مما يعني أنه يستلزم عوامل أخرى للتميز مثل الإخلاص أو التجريب. أو الجنون أحياناً!.
توفيت نينا ريتشي في عام 1970 عن عمر يناهز 87 عاماً وأكمل روبرت مسيرتها مبتكراً عطره الأشهر باسم Nina”” عرفاناً وإحياءً لذكرى والدته السيدة نينا، ليحدث من جديد هزةً في الأوساط الجمالية في العالم ويغير ذهنية التعاطي مع زجاجة العطر حتى يومنا هذا. بلى أوليس هو من يقول أن العطر ما هو إلا ضربٌ من العرفان والذكرى معاً.
ينظر اليوم كبار المصممين ودور الأزياء إلى السيدة نينا ريتشي بوصفها ملهمةً وعلامة فارقة في تاريخ الجمال والموضة. وأنظر لها بصفة شخصية بانها شاعرة حقيقية كانت لغتها الورود والأقمشة والعطور.