السلايدر الرئيسيتحقيقات
قضيّة جمال خاشقجي: بين الحبكة الاستخباراتيّة الهشّة والمعايير المزدوَجة في الغرب (1 – 2)
جمال دملج
– بيروت – من جمال دملج – بصرف النظر عن مدى بجاحة محاولات التوظيف السياسيّ الممنهَجة لقضيّة اختفاء الصحافيّ السعوديّ جمال خاشقجي منذ دخوله الموثَّق بالصور إلى مقرّ قنصليّة بلاده في مدينة إسطنبول التركيّة قرابة الساعة الواحدة والربع من نهار الثلاثاء الواقع في الثاني من شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) الجاري ولغاية اليوم، سواءٌ من حيث النزعة الواضحة لإخراجها في سياق السيناريوهات المعتمَدة تقليديًّا في الأعمال الدراميّة ذات الصبغة البوليسيّة التشويقيّة أم من حيث الرغبة الفاضحة في استغلالها خدمةً لأجنداتٍ خاصّةٍ تتعلَّق بمصالحِ عواصمَ إقليميّةٍ وعالميّةٍ في بازارات المضاربات والمقايضات الرائجة جدًّا في الوقت الراهن، فإنّ أكثر ما بدا لافتًا في خضمّ تداعيات الإرهاصات الناجمة تباعًا عن تلك البجاحة خلال الأسبوعين الماضيين، على حساب قضيّة خاشقجي المغدور حتّى هذه اللحظة إمّا اختطافًا وإمّا احتجازًا وإمّا إخفاءً وإمّا اغتيالًا، كان قد تمثَّل في افتقار غالبيّة المواقف المعلَنة والتسريبات المتواتِرة والتغطيات المتواصِلة في وسائل الإعلام لميزة التصويب المباشِر على حقائقَ راسخةٍ وأدلّةٍ دامغةٍ من شأنها أن تُسهِم حقًّا، ولو بدرجاتٍ متفاوِتةٍ، في التوصُّل إلى الكشف عن الملابسات المتعلِّقة بهذه القضيّة بشكلٍ أوضحَ وأكثرَ نقاءً، وعلى رأسها هشاشة الحبكة الاستخباراتيّة التي ترافقت مع إجراءات توريط المملكة العربيّة السعوديّة وحدها في تحمُّل المسؤوليّة كاملةً عمّا حدث، بدءًا من لحظة دخول الصحافيّ المغدور إلى مقرّ القنصليّة في اسطنبول، مرورًا بتذبذب بارومتر المواقف التركيّة ما بين روايات المصادر الأمنيّة ذات الأبعاد التشويقيّة المتناهية من جهةٍ وما بين تصريحات الرئيس رجب طيّب أردوغان ووزير خارجيّته مولود تشاويش أوغلو ذات الآفاق التساوميّة المفتوحة على كلّ الاحتمالات من جهةٍ أخرى، ووصولًا إلى الطامة الكبرى المتجسِّدة في مزاجيّة الكرّ والفرّ التي ما زالت تطغى على سلوكيّات الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب لدى تعاطيه مع الرياض وفقًا لمبدأ “الدفع مقابل الحماية”، وهي الهشاشة التي لا بدّ من أن تستوجب في موازاة استمرار تجلّياتها المشبوهة الإسراع إلى فتحِ نافذةٍ للتأمُّل في ما وصلت إليه المعايير المزدوَجة في بعض الدول التي ترفع في هذه الأثناء راية قضيّة جمال خاشقجي من وضاعةٍ غيرِ مسبوقةٍ في الشكل والمضمون والنوايا والخبايا.
القتلة المارقون
وإذا كانت المواقف التي جاءت على لسان الرئيس ترامب اليوم الاثنين قبيْل إيفاد وزير خارجيّته مايك بومبيو إلى الرياض للقاء العاهل السعوديّ الملك سلمان بن عبد العزيز تشكِّل إحدى تجلّيات هذا الكرّ والفرّ، وخصوصًا عندما أشار إلى أنّ “الحكومة السعوديّة والملك سلمان نفوا بشدّةٍ أيَّ علاقةٍ لهم باختفاء خاشقجي”، معبِّرًا عن اعتقاده بأنّ “هناك أسبابًا أخرى يمكن أن تظهر لإلقاء اللوم”، وبأنّ ثمّة “قتلةً مارقين يمكن أن يكونوا وراء ما حدث للصحافيّ السعوديّ”، فإنّ أهمّ الدلالات التي يمكن استنباط معانيها في ضوء هذه المواقف المفاجئة هي تلك التي باتت توحي في هذه الأثناء بأنّ شروط إتمام صفقة المقايضة بين واشنطن والرياض على أساس مبدأ “الدفع مقابل الحماية” أوشكت على أن تكتمل بالفعل، حتّى ولو أنّها تتنافى جملةً وتفصيلًا مع فحوى التسريبات التي تحدَّثت في وقتٍ سابقٍ عن أنّ هيئة الأمن القوميّ الأمريكيّة تمكَّنت من رصد اتّصالات تؤكِّد ضلوع مسؤولين أمنيّين سعوديّين في التخطيط لاستدراج خاشقجي إلى الرياض.
هذا الكلام، وإنْ كان لا ينطوي بالطبع على أيِّ نِيّةٍ مبيَّتةٍ للسعي في اتّجاه تبرئة ساحة النظام السعوديّ ممّا يُوجَّه إليه من اتّهاماتٍ منطقيّةٍ جدًّا بشأن تورُّطه المحتمَل جدًّا في قضيّة إخفاء جمال خاشقجي والتعتيم على مصيره المجهول لغاية الآن، ولكنّ الغرض الأساسيّ من وراء صياغته ونشره هنا، يتمثَّل في وجوب الإضاءة على بديهيّةٍ مؤدّاها أنّه لولا نمط المعايير المزدوَجة الذي تعاملت على أساسه الدول الراعية لمبادىء الحرّيّات العامّة وحقوق الإنسان، بما فيها الولايات المتّحدة الأمريكيّة، مع بعض سوابق الرياض في مجال استدراج العديد من معارضيها إلى شِراكها، وفقًا لموازينَ استنسابيّةٍ مفرِطةٍ، لما كان السيف قد وصَل إلى رقبة خاشقجي في الأصل، علمًا أنّ صفة المعارِض الفذّ لا تنطبق على الرجل بأيِّ شكلٍ من الأشكال بقدْر ما تنطبق عليه صفة المنتقِد الموضوعيّ للسياسات غير المتّزنة التي دأب الأمير محمد بن سلمان على انتهاجها منذ “تعيينه” وليًّا للعهد في أعقاب “إعفاء” الأمير محمد بن نايف عن هذا المنصب في شهر حزيران (يونيو) عام 2017.
سيناريو ناصر السعيد
وفي هذا السياق، لا بدَّ من الإشارة إلى نموذجٍ بارزٍ يُفترَض أن يكون له بالغ الأثر في تجسيد المدى الذي وصل إليه “تساهُل” الإدارات الأمريكيّة المتعاقِبة على سدّة الرئاسة في البيت الأبيض مع “تجاوزات” الرياض في مجال قمع الحرّيّات وانتهاك حقوق الإنسان، وهو النموذج الذي يتعلَّق بعمليّة اختطاف المعارِض السعوديّ ناصر سعيد الشمري (ناصر السعيد) في بيروت يوم السابع عشر من شهر كانون الأوّل (ديسمبر) عام 1979، والذي تستوجب الأمانة الأخلاقيّة، مهنيًّا وإنسانيًّا، عدم التفريط بأهميّة التطرُّق إليه في سياق الحديث الدائر في هذه الأثناء عن المحاولات المتكرِّرة لابتزاز السعوديّة، مادّيًّا ومعنويًّا، على خلفيّة تداعيات قضيّة جمال خاشقجي.
وإذا كان المعروف عن عمليّة اختطاف ناصر السعيد واقتياده إلى مقرّ السفارة السعوديّة هو أنّها تمَّت لدى خروجه مذعورًا من مبنى جريدة “السفير” الكائن في “نزلة السارولا” المؤدِّية إلى “شارع الحمرا”، بعدما تبيَّن له عدم حضور أحد الصحافيّين الفرنسيّين لإجراءِ مقابلةٍ معه هناك في الموعد المحدَّد، فإنّ القطبة المخفيّة في التفاصيل المجهولة حول هذه العمليّة تتمثَّل في أنّ المعارِض المغدور كان يترأس يومذاك جلسةً حواريّةً نُظِّمت له بحضور عشرات المدعوّين داخل مقر الاتّحاد الاشتراكيّ العربيّ في “كورنيش المزرعة”، وهي الجلسة التي كان من المفترَض أن تكون كافيةً لكي تُشجِّعه على الاستغناء عن فكرة التوجُّه في أعقاب انتهائها إلى “نزلة السارولا”، حرصًا على أمنه الشخصيّ، نظرًا لأنّ الفرصة كانت سانحةً بالطبع لإجراء المقابلة مع الصحافيّ الفرنسيّ في مكان انعقادها، الأمر الذي ما لبث أن دلّ إلى وجود “خياناتٍ كبرى” ارتُكِبت بحقِّ أوّلِ معارضٍ سعوديٍّ في التاريخ الحديث من قِبل أقرب المقرَّبين إليه، وفقًا لتوجيهاتِ كلٍّ من سفير المملكة في لبنان وقتذاك الفريق علي الشاعر والملحق الثقافيّ (الأمنيّ) الشريف حسين بو نمير، وتجاوبًا مع إغراءاتهما الماليّة السخيّة، تمامًا مثلما يدلّ للتوّ إلى أنّ كلّ ما تمّ ترويجه خلال السنوات الطويلة الماضيّة عن ضلوع مجموعاتٍ فلسطينيّةٍ تعمل تحت إمرة عطا الله عطا الله (أبو الزعيم) في عمليّة الاختطاف لا بدَّ من أن يُشطَب من الحسابات بشكلٍ تلقائيٍّ، وخصوصًا إذا أعدنا للذاكرة فحوى التقارير الأمنيّة التي تحدَّثت مرارًا عن أنّ وكالة المخابرات المركزيّة الأمريكيّة كانت تتابع سير العمليّة لحظةً بلحظةٍ، سواءٌ عن طريق عملائها المنتشرين غبّ الطلب بين “كورنيش المزرعة” و”شارع الحمرا” أم من خلال مركز التنصُّت التابع لها في “جادّة مكاريوس” في العاصمة القبرصيّة نيقوسيا، وهي التقارير التي إنْ دلَّت إلى شيءٍ في حالة جمال خاشقجي الراهنة، فهي تدلّ إلى أنّ الولايات المتّحدة غالبًا ما تكون جاهزةً للتستُّر عن الجناة الحقيقيّين في أعمالٍ إجراميّةٍ مماثلةٍ طالما أنّ النتيجة لا تمسّ بمصالحها الحيويّة، وطالما أنّ للصمتِ أثمانٌ ستُدفَع بمئات المليارات من الدولارات وفقًا لمبدأ “الدفع مقابل الحماية”… وللحديث عن هشاشة الحبكة الاستخباراتيّة في قضيّة جمال خاشقجي تتمّة.
يتبع غدًا (2 – 2)