باز علي بكاري
لم يكتفِ النظام السوريّ وحزب البعث مِن تلبيس الكُرد في سوريّا تُهم الانفصاليّة ومُحاولة تأصيل ذلك ضمن الذائقة الجمعيّة للسوريين، زادَ عن ذلك في مُحاولاته المُستمرة من خلق نزاعات عقائِديّة وطائفيّة ضمن المُجتمع الكُردي نفسه في سوريّا، لتذويبه ضمن الصراعات الإثنيّة الّتي يسعى إليه النظام السوريّ منذ عُقود.
قدّم النظام السوريّ نفسه وما يزال على أنه حامل الرسالة العلمانية ومحارب التطرف الديني بأشكاله المتعددة، إلا أنّه لجأ في سيرة محاولاته ومع بداية العقد الأول من الألفية الجارية، إلى تسهيل مرور مبّشري المذهب الشيعي في كُردستان سوريّا، وهنا لا أختصر الأمر على الكرد فقط، بل كان هدفه جل المنطقة الشرقيّة والشماليّة الشرقيّة من البلاد، لكن على الصعيد الكردي كانت الدوافع والأسباب مختلفة وإضافيّة.
إذ كان للنظام السوري أن سهل عملية انتشار وحركة المبشرين الشيعيين في الرقة ودير الزور، محمّلين بمغرياتهم الماديّة والسلطويّة، خاصة في المجتمعات المنكوبة من حيث التطور العلمي والخدمي، وكان للنظام وأدواته من المبشرين أن استقطب أعداد لا بأس بها في أرياف الحسكة ودير الزور والرقة، بتقديم مغريات منها الإعفاء من الخدمة العسكرية، وتقديم رواتب شهرية لمن يواظب على الصلاة في المساجد بمبالغ وصلت للعشرة الاف ليرة سورية آنذاك، وكانت تعادل راتب موظف حكومي.
في كُردستان سوريّا، وتحديداً في الحسكة وكوباني، كان أمام النظام ومبشريه عراقيل عدة لتسهيل مهمة المبشرين، أبرزها أن المجتمع الكردي في سورية وبحكم تأثير التيارات القومية والشيوعية كان ينفر من الأفكار الدينية في الأساس وحتى المتدينيين من الكرد كانوا من أتباع المدرسة الصوفية، وهذا يأخذنا إلى العائق الثاني وهو وجود عائلة الخزنوي، وهم شيوخ الطريقة النقشبندية ومركزهم قرية تل معروف بريف مدينة قامشلي في محافظة الحسكة، وعائلة الخزنوي عائلة كُردية، وكان لها من الأتباع في سوريا وتركيا ما يفوق الخمسة ملايين ممن يُعرفون مجتمعياً بالمريد، أيضاً يضاف إلى ما سبق أن المجتمع الكردي لم يكن بذات المستوى المتردي اقتصادياً كما باقي المناطق ليجد في ما تقدمه آلة النظام السوري من المبشرين من رواتب ما يغري لاتباع مذهب ديني آخر.
أما بالنسبة لعائلة الخزنوي التي كانت تشكل عائقاً كبيراً أمام ما يبغي النظام السوري تطبيقه من مخطط لزرع كتل تتبع له عبر بوابة المذهبية، خاصة وأن الخطاب القومي الكردي بدأ يتسرب إلى العائلة الخزنوية، وخير مثال على ذلك الشيخ محمد معشوق الخزنوي الذي اغتاله النظام في منتصف العقد الماضي والذي عرف بمواقفه القومية وخطاباته في مناسبات قومية عدة أبرزها خطاباته في احتفالات عيد النوروز، إضافة إلى أن شيوخ العائلة الخزنوية كانوا من رواد الطريقة النقشبندية كإحدى طرق المذهب السني، ما يتعارض مع ما يروج له المبشرون الشيعة المدعومون من النظام السوري.
وكانت أول ضربة مباشرة تتلقاها العائلة الخزنوية هي اغتيال رائد الفكر القومي بين أبناء العائلة الخزنوية الشيخ محمد معشوف الخزنوي، بعد اختطافه لثلاثة أسابيع ومن ثم قتله بطريقة غامضة في الأول من حزيران عام 2005.
ومن ثم كانت الضربة الثانية للعائلة الخزنوية، وهي مقتل الشيخ محمد الخزنوي واثنين من أبنائه وهو شقيق معشوق الخزنوي، بعد أقل من أربعة اشهر من اغتيال الشيخ محمد معشوق الخزنوي، في المملكة العربية السعودية، وذلك إثر حادث مروري، كانت هناك إشارات استفهام عدة حولها، بأنها حادثة مدبرة.
بالتزامن مع حادثتي الاغتيال تم الترويج على أن كلتا القضيتين تأتيان من خلفية الخلافات العائلية على وراثة الطريقة الدينية وأموال العائلة، هذا الأمر الذي عمل النظام على الترويج لها، عبر مواليه وعناصر أجهزته الأمنية.
على صعيد آخر، ضيّق النظام السوري على عمل الأحزاب القومية الكردية في سوريا، بشن حملات اعتقال في صفوف قيادات وأعضاء هذه الأحزاب بغية انهاكها وإشغالها والتقليل من تأثيرها على المجتمع الكردي، مستفيداً من ارتدادات انتفاضة الكرد عام 2004، بتجهيز التهم لقادة وكوادر الأحزاب الكردية.
في ذات السياق، عمل النظام على خنق المنطقة الكردية من الناحية الاقتصادية، لسببين أولهما عقابي، على ما كان للكرد من انتفاضة سنة 2004 الأمر الذي وجد في النظام تحدٍ من الكرد لأجهزته الاستخباراتية، وثقباً من الممكن أن يتسع لباقي المكونات السورية، والسبب الثاني لحمل الفئات الفقيرة من المجتمع الكردي للجوء إلى الحسينيات التي بداً المبشرون بتشييدها في مدن عدة في المنطقة، وهي التي لروادها رواتب ومنح مالية.
بالفعل طبق النظام السوري ما يشبه الحصار على كُردستان سوريّا، عبر قرارات إدارية ومراسيم تشريعية منها المرسوم التشريعي رقم 49 لعام 2008 الذي منع البناء وبيع وشراء العقارات في المناطق الحدودية في سوريا، وطبق فعلياً في المناطق الكردية، الأمر الذي أسفر عن فقدان العديد من العاملين لمواردهم المالية، وتفشي البطالة في المنطقة.
لكن على الرغم من محاولات النظام السوري الحثيثة لتهيئة بيئة ملائمة من شأنها أن تسهل عمل المبشرين الشيعة في المنطقة الكردية، لكنه لم ينجح في ما كان يهدف إليه، والعراقيل ذاتها التي عمل النظام على إزاحتها كانت أسباباً كافية لفشل ما خطط له، وهنا أذكر على سبيل المثال طرفة من طرائف مدينة عامودا التي كان لها نصيب من الحسينيات التي شيدت في المنطقة ففي إحدى المرات التي كنت أتجول فيها بالقرب من الحسينية كان هناك تجمع لثلة من الشباب جالسين على قارعة الطريق ويشيرون إلى الحسينية قائلين «لم نفهم ما المغزى من بناء هذا الجامع الكبير، فعامودا فيها ما يقارب الأربعين جامع، لكن من الجيد أنهم بنوا هكذا بناء ضخم فهو يصلح لأن يكون مجمعاً تجارياً كبيراً بعد أن يرحل النظام الحالي، أو أن يتحول لصالة سينما أو حتى لمركز ثقافي».